فريدريك نيتشه ……
في أروقة المصحّ العقلي، حيث تصمت الجدران احترامًا لجنونٍ نبيل، كان فريدريك نيتشه يمشي بخطواتٍ من دخان. كلّ زاويةٍ في الغرفة كانت تنظر إليه كأنّها تتذكّره من حياةٍ سابقة، حين كان يكتب عن الإنسان الأعلى بيدٍ مرتجفة من الحُمّى الوجوديّة. كانت الممرّات بيضاء أكثر ممّا يجب، كأنّها تتعمّد محو ألوان العالم الّذي أحبّه ذات عقلٍ صاحٍ.
هناك، خلف زجاجٍ غائم، يجلس نيتشه ووجهه صفحةٌ نصفها فكرٌ ونصفها وجع. يكتب على الهواء كما لو أنّ الكلمات لم تعد تحتمل الورق. عيناه تحفران في الفراغ بحثًا عن ملامح الله، وعن ظلّ الإنسان الّذي لم يولد بعد. لم يكن مجنونًا كما زعموا، بل كان يرى أكثر مما يُحتمل.
كان ذلك النّهار في تورين… شتاءً ثقيلاً يهبط على المدينة كحكمٍ نهائيّ، وحصانٌ يتلقّى سياطًا بلا رحمة، فيما المارّة يمرّون كأنّهم لا يرون. وحده نيتشه توقّف، كأنّ الكون انكمش في تلك اللّحظة بين ضربةٍ وصهيلٍ مختنق. تقدّم نحو الحيوان المجلود، احتضنه كما يحتضن نبيٌّ نبوءته المكسورة، وقبّله كمن يعتذر للوجود كلّه.
في تلك القبلة انكسرت الفلسفة، وانهارت جبال الإرادة. كانت تلك اللّحظة امتحانًا أخيرًا لفكرٍ ظنّ أنّ الإنسان يستطيع أن يتعالى على رحمته. لكنّ قلب نيتشه أفصح عن الحقيقة الّتي خاف أن يكتبها: أنّ القوّة العظمى ليست في الصّلابة، بل في الانكسار أمام ما هو أضعف منّا.
جان كبك __________






































