فلسطين… حين يتكلّم الزّعتر وتبكي الزّيتونة
بقلم عدنان الطائي
فلسطين ليست خارطةً من خطوطٍ مرسومة على ورق، بل قلبٌ نابض بالحياة، تنبض فيه الأرض كما تنبض الأمّ حين تحتضن طفلها بعد غياب. هي أرض الزّعتر والزّيتون، العابقة برائحة التّاريخ والمغمّسة بدماء الشّهداء، تلك الّتي لم تعرف سوى الصّمود رغم كثافة الجراح. منذ أن وطأت أقدام الاستعمار أرضها، تحوّل الحجر إلى شاهدٍ على وجعٍ ممتدّ، وارتفعت الجدران كأنّها سياجٌ ضدّ الحلم. الاستيطان الإسرائيلي ليس عمرانًا من حجارة، بل خرابٌ للذّاكرة، محاولةٌ لسرقة هويّة المكان، وطمس أسماء القرى الّتي كانت تنام على أهازيج الأمّهات. هو مشروعٌ يُبنى على أنقاض العدالة، ويُسقى بدموع المشرّدين، ليثبت زورًا أنّ الغاصب يمكن أن يصبح صاحب الدّار.
لكنّ فلسطين ليست ضحيةً فحسب، بل حكايةُ نهوضٍ متكرّر، كالعنقاء حين تنهض من رمادها لتُعلن للعالم أنّ الأرض لا تموت إن كان فيها جذورٌ تنبض بالعشق. في كلّ زيتونةٍ تُقتلع، يولد ألف غصنٍ جديد، وفي كلّ حجرٍ يُقذف على بيتٍ فلسطيني، تُولد ذاكرةٌ لا تمحوها جرّافات العالم.
في الخليل، ما زالت الجدّات ينسجن الثّوب المطرّز بخيوط الصّبر. في القدس، تتّكئ المآذن على أجراس الكنائس، شاهدةً على وحدةٍ لم تفلح في كسرها عقود الاحتلال. وفي غزة، تكتب الطّفلة اسم وطنها على رمل البحر، كأنّها توقّع وثيقة الخلود. لقد أراد المستوطن أن يزرع غصنه مكان الزّيتونة الأصيلة، فأنبتت الأرض رفضًا، وسقته السّماء لعنتها. فالأرض تعرف أبناءها، وتشمّ عرقهم، وتأنف من الغريب مهما حاول أن يتزيّن بأقنعة القداسة.
فلسطين، يا قصيدة الأرض الأولى،
يا وجع التّاريخ وجماله،
يا مرآة العالم في امتحان ضميره،
كلّ حجرٍ فيك يرتّل سورة الصّبر، وكلّ شبرٍ من ترابك يكتب وصيّة الحرّيّة.
سيأتي يومٌ تشرق فيه الشّمس دون أن يحجبها جدار، وتعود الأرض إلى حضن من أحبّها حقًّا، لا من احتلّها بالقوة. وحينها ستبتسم الزّيتونة العتيقة، وسيهتف الزّعتر من بين الصّخور: ها قد عاد الوطن إلى نبضه، وعادت الرّوح إلى الأرض الّتي لم تخن يومًا إنسانها.






































