صرخة الجذور
ميديا الحيدري خطوات تبحث عن ملامحها
أصوات تستغيث من قلب الحياة
“میدیا یوسف الحیدري” غنیة عن التّعریف، فھي ابنة الأدیب المبدع الرّاحل “یوسف الحیدري”، الّذي أتحف المكتبة الأدبیّة الكوردیّة والعربیّة بكتبه وإبداعاته، وتألقھ المستمرّ نحو الهدف الإنسانيّ المشھود له، فھي تنهل من ھذا الإرث الأدبي القیم، لتخطو خطوات جریئة واثقة نحو الاستمرار والإبداع.
الكتابة حدث نفسي، وروحي، وفكري، قبل أن تكون ھدفًا لأحداث على أرض الواقع، الكتابة وسیلة تجرّ مكنونات الأعماق، بإرادة الكاتب أو دونھا، على سطور الورقة العاریة، لتضیف للنّص تألّقًا نفسيًّا شعوریًّا بذوبان العواطف والأحاسیس المتناهیة خلف كوالیس الخطوب، وبصورة غیر مرئیّة وجریئة تلفت انتباه القارئ لیستمتع بجمالیّة النّصً والفكرة المنطلقة منھا، إنّھا أصوات تستغیث من قلب الحیاة بصورة غیر معقّدة، وھي صرخة الجذور الأصیلة بوجه الواقع الّذي یسیر ربما بمسار منحرف، لتناقضات هذه الحیاة واختلاف الملموس واللّاملموس. إنّھا صرخة الأعماق لرؤیة موت الجذور، وانهيار الأصالة والرّحمة.
لو تأملنا قلیلاً نصوص “میدیا یوسف الحیدري”، نجد في محاور القاصّة تشابهًا وتنافرًا، وتقالید العصر تضمّھا حوارات درامیّة مبسطة، سهلة الإیقاع، لكنّها ذات تأثیر مباشر على الحركة والوصف والتّناظر القصصيّ، فالتّصوّر الشّعبيّ، والأخلاقيّ، والسّلوكيّ، والرّؤیة الدّقیقة، خطوات تبحث عن ملامحھا بنفسھا.
تتمیّز صورھا داخل النّصً بهدوء في بناء الفكرة، وتسلّط المحور الإنسانيّ بالاقتران مع خط الذّات، بعیدة عن العنف، ھذا النّمط، وهذا الانسجام، ناءٍ عن المغامرة الفردیّة، كالزّرع الّذي ینمو ببطء، يحتاج إلى عناصر متراكمة لتكوين مراحل الاستقلالیّة والهوية، (ناس من طرفنا) استقلالیّة من ناحیة، واتّباعیة من ناحیة أخرى، البیئة مصدر أوليّ، والظّروف والأحداث المحیطة، رغم ما بھا من سبل، إلى الفجوات الواسعة والتّناقضات.
“میدیا” في فكرة )ھیلین) تبحث عن البراءة، وعن الوجود الجمیل، عن الحلم والمستقبل، وحبّ الوطن، (ھیلین) الطّفلة الّتي تلعب مع فتیات الطّرف، كأنّھا تقول: إنّ ھذا العالم المحاصر الحزین، له نوافذ مشعّة جمیلة، تطلّ على الجنان، على الابتسامة والحبّ، على الخیر والسّلام، الّذي یتراءى ببراءة الأطفال، (ھیلین) فتاة بعمر الورد، ذكیّة، وواثقة من نفسھا كثیراً، تلعب مع فتیات الطّرف اللّائي من عمرھا، لعبة قدیمة (بیت بیوت)، فتراھا مرّة دكتورة، وأخرى معلّمة، أو (ست بیت)، ھكذا تقضي (ھیلین) فراغھا بعد أن تنهي كلّ الواجبات المدرسیّة المطلوبة.
في قصة (نجل الشهيد)، تصور “میدیا ” مكانة الشهيد ّ العظيمة، والتّأثیر النّفسيّ على الأطفال، باستعمالھا (الجیران الجدد)، طفل في الصّف الأوّل الابتدائي، كالأحداث المأساویّة، تترك آثارًا في أرواحنا وأفكارنا، وتنمو كلّما مضى بنا الزّمان تحت لواء الحیاة، فكیف إذا كان طفلاً في بدایة الحیاة، وصفحات مشاعره وأحلامه وتأثّره وذاته، تستقبل كلّ حدث جدید، فإذا به أمام واقع لا یقبل التّغییر، وحرمان أبوي في أمسّ الحاجة إلیه، ضدّ تیّار الواقع، وعندما تتراءى أمام عینیه صورة جمیلة وكاملة للوالدین، یجد میزان حیاته على كفّة واحدة، وھذا التّأثیر والشّعور یبقى، حتّى لو دارت الأیّام وسارت لصالحه، (نجل الشّهيد) صوت یستغیث، یحتاج إلى الاهتمام والرّعایة الكاملة، لیغدو قویّاً أمام تقلبات الحیاة والواقع، ومواجهة كلّ التّناقضات، لمستقبل یخدم فیه وطنه وذاته.
«لماذا تھرب منّي؟»
«لأنّ ماما أوصتني ألّا أتكلّم مع أحد، ولا أذهب عند أحد، لأنّنا غرباء. »
«إذن أنتم الجیران الجدد؟»
«نعم. »
«ھل تذهب إلى المدرسة؟»
«أنا في الصّفّ الأوّل الابتدائي. »
«أنت جمیل جداً. ھل ماما مثلك جمیلة؟»
«یقولون أنا أشبه بابا، لكنّي لم أره. »
«لماذا؟»
«لأنّي یتیم، بابا شهید. »
«أنا یتیم. »
«لا حبیبي، أنت لست یتیما. »
«قبّلتُه، وضممتُه إلى صدري بقوّة، ولسان حالي یقول: »
«لا تقل صرت یتیماً یا ابن ذي الشّهامة العظیمة، نجل من مات شھیداً، قطّ لا یُدعى یتیماً. »
“میدیا یوسف الحیدري” تحاول من خلال قصة (ناس من طرفنا)، أن تعلن للعالم الأصوات الّتي لا تتمكّن أن ترفع صوتھا، تأخذ “میدیا” صور الصّرخات المكبوتة، وتضعھا أمام مرآة الواقع.
في سطور نصّ (الأخرس)، الفتى الرّشیق والنّشط، الّذي یتعامل مع الآخرین بالإشارات، وفنجان الشّاي والسّيكارة لا یفارقھا أبداً، یقف بباب المنزل یراقب النّاس، وهذه تسلیته الوحیدة، ویشعل السّيكارة تلو الأخرى، كأنھ نوع من الانتحار البطيء، ھذه صورة التّنافر من المجتمع السّويّ، الّذي لا یحتاج إلى الإشارات في التّعامل، واحتراق الذات المستمرّ أمام عالم بلا حرمان، في أعماق الأخرس صرخات، لكن كیف یطلقھا؟ وكیف یحرقھا؟ لأنّھا تأبى الموت الأبديّ.
وفي نص (إيفان)، الملاك الطّاهر والذّكيّ جدّاً، یبقى مظلوماً، لأنّ اجتهاده وتفوّقه یرتطم بجدار أمه المعلّمة، فلا ینسب إلیها النّجاح مھما جدّ واجتهد.
وإلى سطور (محمد ومواویله)، الّذي یساعد عائلته بما یكسبه من الدّكّان، وأحیاناً یغنّي مواویله في أفراح الأقارب والأصدقاء، بعد إلحاح من أصحاب الفرح، فالكلّ معجب بصوت محمد ومواویله الجمیلة، لكنّه یرسب في المدرسة، رافضاً المناهج الدّراسیّة الرّتیبة، المملة، أمام حلمه أن یصبح مغنّیاً، فكیف ینال الشّهادة الكبیرة مع الغناء؟
“میدیا یوسف الحیدري” كاتبة بإحساس مرھف، ورقیقة برقّة كلماتھا، وعفويّتها، وهواجسها، وأفكارها، الّتي تجعل للنّصّ أطراً جمیلًا، و مبدعاً، تواجه جذور الواقع، وتستمدّ منھ أصوات الحیارى والمحرومین، والّذین یبحثون عن ملاذ آمن، في صور: (ھیلین)، (نجل الشهيد)، (الأخرس)، (إیفان)، (محمد ومواویله)، إنھا كشجرة خضراء، جذورھا غائرة في أعماق بحر مقدس، یا ترى، ھل ینطبق علیھا المثل القائل: “ابن الوزّ عوام”؟ أم أنّھا، كأبطال قصصھا القصیرة، تبحث، فلا تجد إلّا التّناقضات؟ ولا تدري إلى أین تنتهي بھا الكلمات والصّرخات..؟






































