النّاقد حنّا عبود
على الرّغم من التّطوّرات الأخيرة في الأنتروبولوجيا، ظلّ تيّار الأعماق، أي البحث عن الجذور، متأصّلاً في الدّراسات، حتّى الّتي كانت تتّسم بأحدث مظاهر الحداثة العصريّة. وما “جمهوريّة” أفلاطون سوى محاولة لضبط هذه الأعماق في مَسارٍ يضمن سلامة المسيرة البشريّة. وقد أَحدث كانط تشويشاً في الفكر الأنتروبولوجي عندما فَصَلَ بين “العقل العمليّ” و”العقل المحض”، وأصرّ على أنّ للعقل المحضْ استقلاله وخطّه الخاصّ به، مهما بلغَ تأثّره بما يُحيط به من البيئة المادّيّة.
وقد أصرّ كلٌّ من تايلور وفرويد ويونغ وأدلر على هذه الأعماق، بدرجاتٍ متفاوتة. ففي حين وسَّع تايلور دائرة الثّقافة لتشمل كلّ شيء تقريباً، أي تَجمع بين الثّقافة (المعنويّات) والحضارة (الماديّات)، غاصَ فرويد وأدلر في أعماق الفرد، وتركوا الأعماق المجتمعيّة ليونغ. أمّا مالينوفسكي وبواس ومرغريت ميد، فقد عمدوا إلى الميدان العملي والانخراط في بقايا المُجتمع القديم والتعرُّف إلى الميثولوجيا العميقة الّتي صاغت هذه المجتمعات، وأثَّرت، ولا تزال تؤثِّر فيها حتّى اليوم، كما يتجلّى ذلك في العادات والتّقاليد والاحتفالات في المناسبات الدّينيّة وغير الدّينيّة، وفي مفردات الحياة اليوميّة. ويبقى السّؤال مطروحاً على الفكر الحديث: ما مقدار تأثير الجذور القديمة كالميثولوجيا والعادات والتّقاليد في حياتنا، وهل استطاع العصر الحديث أن يتخلّص من هذه الجذور؟ وهل نجحت الميثولوجيا الجديدة (العقائد الجديدة من دينيّة وسياسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة) في الحلول محلّ تلك العقائد القديمة؟
تعكس الميثولوجيّات أنماطَ تفكيرِ البشر. ففي الميثولوجيا اليونانيّة، هناك بانثيون (المجمّع المقدّس للآلهة) وهناك آلهة صغيرة لها مطالبها الّتي تتقدّم بها إلى رئيس البانثيون ويجري التًصويت أو القرعة، بحسب الطّلب المقدَّم، ثمّ تتّخذ القرارات اللّازمة. وما جمهوريّة أفلاطون سوى توزيع جديد لمهامِ الآلهة على البشر. وكما مرّت ألوانٌ من الحُكم في السّماء (من أيّام أورانوس حتّى أيّام زيوس)، كذلك مرّت أنماطٌ من الحُكم في بلاد اليونان من ديمقراطيّة ودكتاتوريّة وأوليغارشيّة… إلى آخر ما ذَكره أفلاطون في جمهوريّته.
ميثولوجيا متفرّدة
هناك ميثولوجيا انفردت بصفاتٍ ليس لها مثيل في ميثولوجيا الشّعوب الأخرى، وهي الميثولوجيا الإسكندنافيّة، ما جَعَلَ بعضَهم يذهب إلى أنّ الرّقيّ الإسكندنافي إنّما كان بسبب هذه الميثولوجيا. ففيها لا يوجد خلود، لا للبشر ولا للآلهة. وهناك مثالٌ ساطع على هذا؛ فالإله بالدر (وهو ابن كبير الآلهة أودن وزوجته فريغا) هو الأجمل والأكمل بين إخوته. وقد ألحّت أمّه فريغا على زوجها أودن أن يَطلب من ربّة الجحيم “هيلا” الإبقاءَ على بالدر حيّاً إلى الأبد. وبدأ أودن رحلته إلى ديار الموتى فوجد العمّال يبنون ضريحاً، فسألهم لمَن هذا الضّريح؟، فقالوا للإله بالدر.
ومع ذلك، أصرّ أودن على مقابلة هيلا، فرفضت طلبه، ولمّا ألحّ قالت له، إنّها ستمنحه الخلود إذا وافقت كلّ موجودات الأرض، من أشياء وأحياء على ألّا تنزل به أذًى ولا ضرراً، ولو بسيطاً. وعاد أودن بهذا الكلام وأخبر فريغا، فهرعت في الحال تطوف الأحياء والأشياء لتأخذ عهداً بأنّ أحداً لن يؤذي ابنها، وبالفعل عادت مسرورة وتأكّدت من أنّ جميع الموجودات لن تؤذي ابنها. لكنّ الإله “لوكي”، وهو إله خبيث، تنكَّر في زيّ عجوز شمطاء واستدرجَ فريغا، فقالت له إنّها أخذت عهداً من جميع الموجودات سوى شجرة هدال لا قيمة لها.
لذلك لم أعرِّج عليها لأطلب منها. فاهتبل لوكي الفرصة، وجاء بقضبان الهدال، وجعلَ منها سهاماً، وطلبَ من شقيق بالدر الأعمى أن يشترك مع أخوته في الرّماية على بالدر بالسّهام والنّبال، ما دامت لا تؤذيه. قال الأعمى إنّه لا يبصر الهدف، فأجاب لوكي أنتَ تمسك، وأنا أُسدِّد. وحان أوان اللّعبة، فراح إخوة بالدر يرمونه بكلّ أنواع السّهام والرّماح، فلا تؤثِّر فيه، حتّى جاء دور الأخ الأعمى، فأمسكَ عود الهدال وسدَّد لوكي فأصابه وأماته. وهنا ضجّت فريغا وراحت إلى هيلا تطلب منها عدم نقل الربّ إلى العالَم السّفلي، فقالت لها إن رضي عنه جميع الأحياء فسأبقيه لك، فراحت الأمّ الملتاعة تطوف على جميع الأحياء، وتأخذ منهم تصريحاً بالرضا والقبول، سوى عجوز رفضت قائلة: وماذا فعل هذا الربّ لنا؟ سأرفض ما تطلبين…
فأقيمت الجنازة وذهب الربّ إلى العالَم الآخر ، يُمكن لمَن تستهويهم ميثولوجيا الأعماق أن يبنوا الكثير على هذا التفرّد، فربّما ذهبوا إلى أنّ مثل هذا التفرّد ساعد على توحيد الفكر الإسكندنافي، فجرى الانتقال من حالة الفايكنغ إلى حالة السِّلم والهدوء والابتعاد عن أيّ ثورة أو حركة دمويّة، والاقتصار على تنظيم المؤسّسات المدنيّة القويّة الّتي تمسك بالحياة الاجتماعيّة، وعلى ترْكِ السّياسة للمُختصّين الّذين يخرجون ناضجين من قلب المؤسّسات المدنيّة نفسها… إلى آخر ما هنالك من براهين يستسيغها المنطق الصّوريّ وينبذها الواقع الحيّ.
هل يكون التفرُّد حلّاً؟
كلّ عقيدة، دنيويّة أو غير دنيويّة، تسعى إلى التفرُّد حتّى تُميِّز نفسها من غيرها، ويكون لها أنصارها، في السعي للهَيْمَنة، في الفكر أو في المُمارَسة. ففيثاغورس يعتقد بخلود الرّوح والعود الأبدي من دون أيّ توقُّف، بينما هيراكليت يرثي العالَم لاعتقاده بعدم الخلود، وبأنّ الكون زائل، على مبدأ أنّ كلّ ما له بداية له نهاية. واحتار أفلاطون في هذه القضيّة، فعَمَدَ إلى بحيرات النّار الّتي تتعمّد فيها الرَوح الخاطئة فتتخلَّص من خطاياها، وتعود إلى العالَم، بعمليّةٍ يسمّيها “التّطهير”. واستغلّ أرسطو ذلك فجَعَلَ التّطهير يحصل في العالَم المعاش، فما التراجيديا إلّا عمليّة تطهِّر النَّفس فتتطهّر بذلك الرّوح، ويكون الصّلاح، أو السّعي إلى الصّلاح، من مهامّ الواقع البشريّ، وليس في الدّنيا الآخرة.
ويرى فرنسيس فوكوياما أنّ الدّيمقراطيّة تفرض نفسها من غير أن يشير إلى الماضي المتراكم، بينما أستاذه صموئيل هنتنغتون يعود إلى الماضي السّاحيق، ويرى أنّ الحلّ لا يكون إلّا بمعرفة ما تتفرّد به هذه الحضارة عن تلك. وبإتباع سياسة تحترم المناطق الحضاريّة، وتبتعد عن إثارة ما تفرّدت به، يُمكن أن نصل إلى نَوعٍ من الحلّ العالَميّ، وينقلب التّنافُس إلى فعاليّة إنتاجيّة، بعيداً من الميثولوجيا القديمة.
ردّ تزفيتان تودوروف على “صِدام الحضارات” بكتاب عنوانه: “الخوف من البرابرة: ما وراء صدام الحضارات”، يرى فيه أنّ الاعتماد على الخطوط الّتي رَسَمَها هنتنغتون لا يضمن أن ينتقل أصحاب الميثولوجيا المَنسيّة (العقائد القديمة) إلى الحضارة، بل يخشى أن يكون التّعامل معهم أو الردّ عليهم نكسة تعود بنا إلى البربريّة، فربّما لا تستطيع أن تقف في وجه البرابرة بأدوات حضاريّة مشبعة بالثّقافة الإنسانيّة النّاعمة، فتلجأ إلى الأساليب البربريّة. فلا التفرُّد حلّ، ولا مُواجَهة خطورة التّفرُّد تأتي بالثّمار المرجوَّة. والتّفرُّد ليس تفرُّداً ثقافيّاً، كما شرحنا في الميثولوجيا الإسكندنافيّة، بل إنّه التفرُّد المُعانِد، أو تفرُّد الّذي لا يملك أدوات المُواجَهة والسّيطرة، فيعمد إلى التّفرُّد، السّلاح الوحيد المتبقّي لمَن يرى أنّ الحضارة تسير بعكس ما يتمنّى.
الآن لندع العصور القديمة وتأثيراتها “التّفرّديّة”، ولْننتقل إلى العقائد المتفرّدة في العصر الحديث، ونسأل هل استطاع التفرُّد أن يأتي بنتيجة؟
أطول تفرُّد ظَهَرَ في عقائد العصر الحديث، هو “الشّيوعيّة” الّتي روَّجت أنّ تنظيم طريقة الإنتاج حلٌّ لجميع القضايا العالقة الّتي عجزت الرّأسماليّة عن حلّها، بل هي حلّ للميثولوجيا المَنسيّة، أي الّتي تجاوزها الزّمن، ولكنّها ظلّت تُستخدم، على الرّغم من انخلاعها عن جذورها، حتّى أنّ لينين، لثقته بهذه النّظريّة، رأى في مقاله “حول الدّين” أنّ الدّين من الميثولوجيا المَنسيّة، ولكن لا يُكافَح بالمُواجهة والحجاج، وإنّما بالانخراط في العمل الحديث القائم على التّكنولوجيا، فلا يجد المرء وقتاً لخدمة عقيدته الآفلة. وبالتّدريج يُصبح هَمّ الإنتاج الماديّ أكبر بكثير من هَمّ العقيدة الآفلة، وخدمة الإنتاج الماديّ تعود بالفائدة، على النّقيض من خدمة العقيدة الآفلة، الّتي لا تكون مضمونة العواقب، كما هو الإنتاج الماديّ. فإنْ لم تتوافر هذه الظّروف، فإنّ مزيداً من العنف سوف يظهر.
وتفرّدٌ آخرُ مقابل لهذا التّفرّد، هو التّفرّد النّازي كنقيض للشيوعيّة، وجرى التّركيز فيه على المعنويّات، وعلى إثارة ما سُمّي “الجنس النّبيل”؛ وبهذا الشّعار يُمكن أن تختفي جميع التّناقضات، سواء أكانت عقائد بائدة أم عقائد سائدة، ففي رأي النّازيّة أنّ المعنويّات القوميّة كافية وحدها، ليس لتوحيد الجنس، بل لتوحيد العالَم.
وقد فشلتِ التّجربة الشّيوعيّة، كما فشلت التّجربة النّازيّة. بل نضيف إلى ذلك أنّ سياسة الحرب الباردة، أو سياسة القطبَيْن، كانت أسوأ ممّا توقّع أصحاب معاهدات الطّرفَيْن.
تجارب جديدة
إذا استمرَّت الأوضاعُ على هذه الشّاكلة، فلن يبقى أمام البشريّة سوى العودة إلى “مُجتمع العبيد”، حيث مَنْ يَملك يُشرِّع، ومَن يعمل يُطبِّق. فإذا كان عائدُ مَن يعمل يسدّ الحاجات الّتي ينشدها، وإذا كان مَن يملك يُدرك أنّ سدّ الحاجات ضرورة من ضرورات استمراره، فقد يعيش مجتمع العبيد بهدوء، وإن كان نسبيّاً، فلا أحد يدري متى تعصف الأزمات بهذه المجتمعات، كما فعلت في مجتمعات العبيد السّابقة. ولا ندري ماذا سيكون موقف تودوروف وسواه من هذا المجتمع، الّذي لن يُكتب له الاستمرار في حال تطوُّر الإنتاج، أو في حال تخلُّفه. إنّه مجتمع الخوف الدّائم، والقلق المستمرّ.
على أنّ ثمّة تجارب جديدة أخذت في الظّهور. والمدهش أنّها ظهرت في القارّات الّتي يُطلق عليها اسم “العالَم الثالث”، خجلاً من أن يُقال المتخلّفة، أي آسيا وأفريقيا وأميركا اللّاتينيّة، بعضها فشل بسبب ضغوط الاقتصاد العالميّ، وبعضها تخلَّف قليلاً، وهو يبحث عن وسيلة تجنّبه هذه الضّغوط، وبعضها لا يزال صامداً. ومن أبرز الأمثلة على ذلك سنغافورة، البلاد الملكيّة، ذات الميثولوجيّات المتعدّدة، تعدُّد الأجناس الّتي تعيش فيها، فلم تقم فيها ميثولوجيا منسيّة بدَور العنف، ولا جَرَفَتْها عواصف الأزمات الاقتصاديّة العالميّة، فهي تتمتّع بميزانيّة ضخمة بالنّسبة إلى عدد السّكّان، ودخل الفرد فيها أعلى دخل في كلّ دول العالَم، ويترأَّس الوزارة امرأة مُسلمة، مع أنّ نسبة المسلمين لا تتجاوز الثّلاثين في المئة، وهي الأقلّ نسبة في العالَم بجرائم العنف، وجواز سفرها هو الأوّل بلا منازع، والبطالة لا تكاد تظهر في أيّ مدينة أو قرية، والضّمان الاجتماعي يُعتبر الأفضل حتّى الآن، والخدمات الّتي تقدِّمها الدّولة من فائض الميزانيّة تذهب لمصلحة المواطنين وتعزيز سلطة المُجتمع المدنيّ، باعتباره أساس كلّ ديمقراطيّة في العالَم، وليس إلى تعزيز سطوة الدّولة وهيْمنتها على كامل الإنتاج، من نقطة الماء حتّى أوتوسترادات السّماء.
وهناك ظاهرة جديدة في ماليزيا، فقد اعتاد النّاس أن تكون الاحتجاجات ضدّ الحاكِم، فإذا هي في هذه البلاد تُطالِب مهاتير محمّد بالعودة إلى الحُكم، بعدما استعفى لِكِبر سنّه.
قرأنا الكثير عن هذه التّجارب، ولكن لم تظهر دراسات تَطرح المسألة طرحاً علميّاً، فتُبيِّن أسباب ظهور هذه التّجارب، ولماذا لم تَظهر في الأقطار الكبيرة أو الكبرى، ولماذا ظهرت في دول قليلة الثّروة الطّبيعيّة، في حين تتمتّع بلدانٌ أخرى بكلّ الثّروات، والفقر ينهش شعوبها، بخاصّة في أفريقيا وأميركا اللّاتينيّة؟
إنّ هذه التّجارب لا تخشى الميثولوجيا والعقائد المَنسيّة، ولا تخاف من شعوبها، وإنّما الخوف الأكبر – كما نعتقد – سيكون من الدّول الكبرى المُهيْمِنة على المنطقة أو القارّة أو العالَم.
لكنّ للبيولوجيّين رأياً آخر، لأنّ المسألة عندهم تبدأ بالجينوم، وبالهَيْمنة الذكوريّة، وجينات الأنانيّة والطمع والعدوان… ومن دون وقف الاندفاع الذكوريّ في الكيمياء الداخليّة، لا يُمكن الحديث عن عالَمٍ آمن. ويذكِّرنا رأي هؤلاء البيولوجيّين دائماً بأنّ التّصرُّف المرئي مرتبط بالمرجل الدّاخلي، وليس بالظّروف، بل بالعكس، إنّ هذا المرجل، هو الّذي يخلق الظّروف الحرجة.
نأمل أن تكون كلمتنا استفزازاً وتحريضاً للمتوانين من ذوي الاختصاصات المجتمعيّة، بحثاً عن مَخرج لا يخلِّف جرحاً عميقاً.
*ناقد وباحث من سوريا







































Discussion about this post