تحليل” قصيدة ونجمتين” للشاعرة بشرى طالبي
تتشكل القصيدة في نسيج وجداني متوتر بين العطاء المطلق والفقدان القاسي، حيث تتوسل الشاعرة بلغة مشحونة بالمجاز والتكثيف الرمزي، لتصوغ نصا تتداخل فيه ثنائية الامتلاء والخواء، الحضور والغياب، الحلم والخذلان. إنها قصيدة تُحاكي رحلة العاطفة الإنسانية في أطوارها المختلفة، من بزوغها الأول إلى أفولها الحتمي، حيث تبدأ بإشراق الحبيب كنجم ساطع، ثم ينحسر نوره شيئا فشيئا، تاركا خلفه أثرا شاحبا في الذاكرة.
ينطلق النص بصورة غنية بالكرم العاطفي، إذ يمنح المخاطب الشاعرة كل ما يمكن أن يرمز إلى الدفء والاهتمام:
نثرتني فوق الغيم قصيدة – استعارة تحمل الشاعرة إلى فضاء علوي، إذ تتحول إلى كيان شعري خالص، يتماهى مع اللغة.
غزلت لي من نبض قلبك معطفًا وجوربين – يتجسد الحب في أفعال حسيّة ملموسة، ويصبح الشعور حماية، والمعشوق ملاذا من البرد الوجودي.
وحملت لي من كل مجرة غزوتها نجمتين – مبالغة شاعرية تمنح الحب بعدا كونيا، إذ يتجاوز المعشوق حدود الأرض ليغزو المجرة، وكأن العاطفة ذات طبيعة أسطورية.
لكن هذه الصورة المثالية سرعان ما تتهاوى حين نصل إلى سؤال الشاعرة القلق:
هلا تفضلت، وأرسيتني، وأزحت ضباب هواك عن سفينتي؟
هنا، تبدأ التحولات العاطفية، إذ تنتقل الشاعرة من الامتلاء إلى التساؤل، من الاتكاء على العطاء إلى المطالبة بالوضوح، وكأنها تعبر عن لحظة إدراك بأن الحبيب لم يعد كما كان، وأنه تركها في حالة من التردد والتيه العاطفي.
مع تصاعد التوتر، يتغير المشهد تمامًا، فنجد الشاعرة تتعثر بين ظلال الذكرى، وتلملم ما تبقى من الحروف، مما يوحي بانكسار العلاقة وسقوطها في دائرة من الحنين المرير:
ألملم شتات حروف القصيدة.
أتعثر في ظل ظلالك البعيدة.
هذه العبارات تعكس حالة من التخبط بين الماضي والحاضر، وكأن الذكرى تفرض سطوتها على الواقع، لتجعل الحبيبة أسيرة مكانها وزمانها، غير قادرة على التقدم أو النسيان.
يصل التوتر إلى ذروته حين تصف نفسها بأنها تُلقى إلى أمواج الشوق، وتصبح العلاقة أشبه بصراع بين الحياة والموت:
يدنو مني الهوى ويدنيني، وفي بحر عينيك يُلقيني.
لأمواج الشوق يرميني، تميتني ثم تحييني.
إنها صورة مكثفة للحب بوصفه حالة لا استقرار فيها، حيث تتقاذف المشاعر الشاعرة بين الوجد والضياع، بين التعلق والانفصال، مما يعزز فكرة أن الحب، في جوهره، ليس إلا لعبة مصير لا يمكن التحكم فيها.
تصل القصيدة إلى خاتمة تلخص كل هذه الرحلة العاطفية المتقلبة، حيث لم يبقَ للشاعرة سوى رمزين:
لا شيء معي سوى، قصيدة ونجمتين، في جيوب المعطف.
هنا، تأخذ القصيدة بعدا فلسفيا، إذ تتحول الذكرى إلى شيء ملموس، إلى أثر مادي في جيب المعطف، لكنها، في الوقت ذاته، لا تحمل الدفء الذي بدأ به النص. فالمعطف، الذي كان في البداية غزلا من نبض القلب، لم يعد سوى وعاءٍ لحطام العلاقة، بينما النجمتان اللتان مُنحتا في البدء كنصر عاطفي، لم تعودا إلا بصيصا خافتا في العتمة.
تنتقي الشاعرة ألفاظا ذات حمولة وجدانية قوية، وتعتمد على مفردات ترتبط بالحواس والمشاعر، مما يضفي على النص بعدا حسّيا عميقا. نجد في القصيدة كلمات من حقلين دلاليين متضادين:
حقل الامتلاء والعطاء يتجلى في كلمات مثل منحني، غزلت، نثرتني، وهبتني، أشرقت، وهبني عمرين.
حقل الفقد والتيه يظهر في كلمات مثل خذلتني، أزحتُ ضبابك، التيه، الخواء، تُميتني، في جيوب المعطف.
هذا التنقل بين الحقلين يعكس البناء الدرامي للنص، حيث تبدأ القصيدة بحالة من الامتلاء وتنتهي بحالة من الفراغ، في تأكيد على فكرة التحول العاطفي.
تقوم القصيدة على تراكيب تتسم بالبساطة الظاهرة، لكنها تحمل دلالات عميقة. تعتمد الجمل على التوازي الإيقاعي، والتقابل بين الجمل، مما يمنحها بعدا موسيقيا ويؤكد على التناقضات الداخلية في التجربة العاطفية.
التكرار يظهر في عبارات مثل وهبني عمرين بدل عمر واحد، تميتني ثم تحييني. هذا التكرار يرسّخ الشعور بالتردد بين الحياة والموت، الفرح والانكسار.
التضاد يعد عنصرا محوريا في بناء القصيدة، فهو يُظهر طبيعة المشاعر المتقلبة. يتجسد ذلك في تعابير مثل نثرتني فوق الغيم قصيدة مقابل وفي بحر عينيك يُلقيني، وكذلك أشرقت الشمس مرتين مقابل وضباب هواك عن سفينتي. هذا التضاد يمنح النص ديناميكية ويعكس الصراع الداخلي للشاعرة.
الاستعارة والتشبيه يبرزان في صور بلاغية تجعل العواطف ملموسة. مثال على ذلك نثرتني فوق الغيم قصيدة التي تصور الذات ككيان شعري يندمج مع الإبداع، وغزلت لي من نبض قلبك معطفا وجوربين التي تحول العاطفة إلى حماية دافئة، مما يضفي بعدا حسيا على الحب.
الإيقاع في القصيدة يعتمد على الموسيقى الداخلية التي تنبع من التكرار اللفظي والمعنوي، مما يخلق إيقاعًا دائريًا يعكس حالة الدوران العاطفي. التوازن في بناء الجمل يبرز في تعاقب الجمل القصيرة والمتوسطة، مما يمنح النص إيقاعا هادئا لكنه مشحون بالانفعال.
تتجلى في القصيدة مهارة لغوية تجمع بين التكثيف والوضوح، حيث تتلاعب الشاعرة بالألفاظ والصور بشكل يعكس عمق تجربتها الشعورية. فالكلمات لا تؤدي فقط دورًا توصيليا، بل تساهم في بناء الحالة الوجدانية، مما يجعل النص نموذجًا للشعر العاطفي الذي يزاوج بين الرقة والثراء اللغوي.
تتوسل الشاعرة بأسلوب شعري يعتمد على التكثيف والاختزال دون الإخلال بالموسيقى الداخلية. فجُملها قصيرة، متوترة، تحمل طاقة شعورية مكثفة، مما يعزز الإحساس بالدراما العاطفية المتصاعدة. كما أن استخدام الضمائر المخاطبة (يا من، يا سيدي) يمنح النص بعدا حميميا، يجعل القارئ مشاركا في التجربة الشعورية لا مجرد متلقٍ لها.
أما الموسيقى الداخلية، فتتحقق عبر التكرار الإيقاعي، مثل:
تميتني ثم تحييني
يدنو مني الهوى ويدنيني
إضافة إلى الاعتماد على التضاد بين الكلمات، مما يخلق إيقاعا داخليا بين المعاني المتقابلة:
الامتلاك / الفقد
الحضور / الغياب
الحياة / الموت
تبدو القصيدة وكأنها رحلة عاطفية كاملة، تبدأ من وهج الحب الأول، ثم تهوي إلى هاوية الحنين، وتنتهي بالخواء. إنها ليست مجرد بوح وجداني، بل تأمل عميق في طبيعة العاطفة الإنسانية، حيث يصبح الحب، في نهاية المطاف، مجرد صدى لحضور لم يكتمل، وذكرى تتكدس في جيوب الزمن، دون أن تمنح الدفء الذي وعدت به يوما.
قصيدة ونجمتين
يا من نثرتني فوق الغيم قصيدة
من حرفين.
وغزلت لي من نبض قلبك معطفا
وجوربين.
وحملت لي من كل مجرة غزوتها
نجمتين.
وغمزت للشمس أن تشرق فوق أرضي
في اليوم مرتين.
ووعدت بأن تكون لي بدل العمر،
عمرين..
هلا تفضلت،
وأرسيتني،
وأزحت ضباب هواك
عن سفينتي…
أنا ما زلت يا سيدي
حيث تركتني…
ألملم شتات حروف
القصيدة.
ألتف بنبض أشعارك
الشريدة.
أتعثر في ظل ظلالك
البعيدة.
يدنو مني الهوى
ويُدنيني،
وفي بحر عينيك
ُيلقيني.
لأمواج الشوق
يرميني
تُميتُني
ثم تُحييني
لأنجو من عينيك
ومن حنيني
لا شيء معي سوى،
قصيدة ونجمتين،
في جيوب المعطفِ.
✍️بشرى طالبي/المغرب
Discussion about this post