#قصة_قصيرة
صيام على حافة الاغتراب (5)
تلاشي الحدود بين الجسد والظل
نورالدين طاهري / بلجيكا
حين أرخى الليل سدوله، بدا أن المدينة قد خضعت لوهم السكون، لكنها كانت تضج تحت جلدها بأنفاس منهكة، وأرواح تصارع وحدتها في الأزقة المنسية. الأضواء الباهتة على الأرصفة رسمت ظلالا طويلة، كأنها أرواح تائهة تبحث عن مأوى. يوسف، بجسده المنهك وعقله المثقل، كان واحدا من هؤلاء، جالسا على مقعد بارد، عيناه تتسلقان نوافذ البيوت المضاءة، حيث تختبئ حياة لم يعد له فيها نصيب.
كان العجوز القابع إلى جانبه أشبه بتمثال مهترئ، لا تتحرك فيه سوى أنفاس ثقيلة، كأنها تنهيدات قرن كامل انحشر في صدره. لم يكن يتحدث، لكن صمته كان ذا صوت مدوٍّ، يفضح تاريخا من الهزائم الصغيرة التي لا يراها أحد.
— “هل ستظل هنا طوال الليل؟” سأل يوسف، وصوته خرج واهنا، كما لو كان يخشى أن يكسر غلاف الصمت الذي يحيط بهما.
فتح العجوز عينيه بصعوبة، نظر إلى يوسف نظرة من رأى الحياة تفقد ألوانها تدريجيًا حتى تحولت إلى رماد، ثم تمتم بصوت متعب:
— “وأين يمكنني أن أذهب؟ الليل لا يملك لنا سوى الأرصفة.”
تسللت كلمات العجوز إلى صدر يوسف كريح باردة، حركت غبار الذكريات التي ظن أنه دفنها. عاد عقله إلى قريته البعيدة، حيث الليل كان له طعم آخر، طعم الدفء والحكايات. كان والده يجلس عند الباب، يعبّ من غليونه تحت سماء مرصعة بالنجوم، وكانت والدته تملأ الفضاء برائحة النعناع المغلي. هناك، كان الليل حضنا، لا فخًا للضياع.
أما هنا، فالليل وحش بطيء، يلتهم الأرواح دون أن يترك أثرا.
— “أنت لست من هنا، أليس كذلك؟” سأل العجوز فجأة، وكأنه غاص في أعماق يوسف دون حاجة إلى تصريح.
أومأ يوسف برأسه، شعر بحلقه يجف قبل أن يجيب بصوت بالكاد يُسمع:
— “من مكان بعيد… كنت أظن أنني سأجد نفسي هنا.”
قهقه العجوز، لكنه لم يكن ضحكا، بل كان أشبه بشهقة ساخرة، كأن الحياة أصبحت في نظره نكتة لا تستحق التصديق.
— “الجميع يأتي إلى هنا ليجد نفسه، لكنهم يكتشفون أنهم أضاعوها في الطريق.”
كانت كلماته تحمل في طياتها مرارة من خبر المدينة بما يكفي ليعلم أنها لا تمنح شيئًا بالمجان، وأنها حين تَعِدُ، فإنها غالبًا ما تَخُون.
كان الليل يزداد برودة، لكن يوسف لم يعد يشعر بجسده، بل بشيء آخر يتكسر داخله بصمت. كأن روحه تتهشم قطعة قطعة، دون ضوضاء، كما ينكسر زجاج نافذة في بيت مهجور، لا يسمعه أحد.
التفت إلى العجوز، فوجده قد استسلم للنوم، جسده متكور كطفل يحاول حماية نفسه من عالم بلا رحمة.
وقف يوسف، شعر أن الأرض تحته لم تعد صلبة، بل أشبه برمال تمتص خطاه، تأخذه إلى مكان لا يعرفه. سار بلا هدف، مرّ أمام واجهات المحلات المغلقة، أمام المقاهي التي انطفأت أنوارها، أمام المساجد التي تستعد لصلاة الفجر. كل شيء من حوله كان يدور في مدار رتيب، وحده كان خارج الزمن، تائها في منتصف طريق لا يعلم أين ينتهي.
حين نظر إلى السماء، لم يرَ سوى ليل أسود، خالٍ من النجوم، كأن السماء نفسها قد سئمت من منح الأمنيات لمن لا يملك وطنا في قلبه.
عندها فقط، فهم أن الغربة ليست مجرد بُعد عن الأرض، بل بُعد عن الذات، وأن العودة ليست رحلة تقطعها الأقدام، بل رحلة أشد تعقيدا، تُقطع داخل القلب.
لكن السؤال الذي ظل معلقا كطيف فوق رأسه: كيف يعود من نسي الطريق إلى نفسه؟
كان يوسف يسير بلا اتجاه، كأن الليل نفسه قد ابتلعه. الأزقة تمتد أمامه كأنها شرايين مدينة لا تنبض إلا بالألم. لم يكن وحده في هذا التيه، كان يحمل معه رجع ذكريات، صدى حوارات لم تكتمل، وجوها غابت لكنها تركت وراءها ظلالا ثقيلة.
وقف عند واجهة زجاجية لمقهى مهجور، نظر إلى انعكاسه في الزجاج، فتساءل: هل هذا حقا أنا؟ الوجه أمامه بدا غريبا، شاحبا، تتخلله خطوط التعب، والعينان غارقتان في ظلال داكنة، كأنهما تحملان وزن ليالٍ بلا نوم. لأول مرة منذ زمن، شعر أنه فقد ملامحه، أو ربما اكتشف أنها لم تكن ثابتة يوما، بل كانت تتغير كلما ابتعد أكثر عن جذوره.
— “أنت أيضا تبحث عن شيء لم تعد تعرف اسمه؟”
انتفض يوسف، التفت ليجد رجلا واقفا بالقرب منه، كان يبدو كأحد أولئك الذين عاشوا حياة بأكملها على حافة الانهيار، لكنهم رغم ذلك ما زالوا واقفين، كأشجار رفضت أن تجرفها العاصفة. كانت عيناه تحملان نظرة من يعرف تماما كيف تبدو الوحدة حين تصبح قدرا.
— “أظنك أخطأت العنوان.” قال يوسف، محاولا الهروب من الحوار قبل أن يبدأ.
لكن الرجل ابتسم، ابتسامة من قرأ أفكار الآخر قبل أن ينطق بها، وقال بصوت هادئ:
— “كلنا نخطئ العنوان، لهذا انتهى بنا المطاف هنا.”
تردد يوسف لحظة، ثم سأل:
— “وهل وجدتَ ما كنت تبحث عنه؟”
أشعل الرجل سيجارة، أخذ نفسا عميقا، ثم زفره ببطء كأنما ينفث كل ما بداخله من تعب.
— “وجدتُ الكثير، لكن لا شيء كان يشبه ما أضعت.”
تسللت الكلمات إلى يوسف كسهام صامتة، شعر أنها ليست مجرد جملة، بل حكمٌ لم يدرك بعد مدى عمقها. أليس هذا ما يحدث دوما؟ نبحث، نجد، لكننا ندرك في النهاية أن ما نجده ليس ما كنا نظنه مفقودا.
— “وما العمل إذن؟ أن نستمر في البحث؟”
ضحك الرجل، لكن ضحكته كانت متعبة، متآكلة الحواف.
— “ربما… أو ربما علينا التوقف عن البحث، والتصالح مع الفراغ.”
هذه المرة، شعر يوسف بشيء يشبه الرجفة يمر عبره. لم يكن مستعدا لقبول الفراغ كجزء من حياته، لكنه أدرك فجأة أنه كان يعيش فيه منذ زمن دون أن يدري. الفراغ ليس غياب الأشياء فقط، بل هو ذلك الإحساس الخفي بأنك لم تعد تعرف ماذا تريد، أو أين يجب أن تكون.
سحب الرجل نفسا أخيرا من سيجارته، ثم رماها أرضا وسحقها بحذائه قبل أن يلتفت إلى يوسف ويقول:
— “المدينة لا تعطي إجابات، هي فقط تعكس ما نحمله داخلنا. إن كنت تبحث عن شيء هنا، فتأكد أنه لم يعد موجودا.”
تركه الرجل هناك، ومضى في طريقه. أما يوسف، فظل واقفا للحظات، كأن الكلمات تجلد روحه. كان يشعر أن المدينة تمتصه ببطء، كأنها تسرق منه شيئا لن يعيده إليه الزمن.
أخيرا، خطا خطوة إلى الأمام، لكن دون أن يعرف إلى أين…
Discussion about this post