صيام على حافة الاغتراب (4)
ظلال المنفى وصدى الذاكرة
نورالدين طاهري
استيقظ يوسف ذلك الصباح على لسعات البرد تتسلل إلى عظامه، رغم أن الشمس كانت قد بدأت تزحف ببطء فوق أسطح المباني الرمادية. كانت الليلة الماضية طويلة، مرهقة، قضاها جالسا في محطة الحافلات، متكورا على نفسه، يحتمي بمعطفه الرقيق من قسوة الفجر البارد. عيناه كانتا نصف مغلقتين، لكن عقله لم ينم. الأفكار ظلت تتقافز كقطيع من الغزلان المذعورة، تأخذه من ذكرى إلى أخرى، من وطن كان يوما يملكه، إلى منفى بات يملكه.
قام بتثاقل، كمن يجر جسدا لم يعد يعنيه أمره. سار في الشارع دون وجهة، المارة يعبرون من حوله كأنهم لا يرونه، أو كأنهم اعتادوا وجود أمثاله، حتى لم يعودوا يلتفتون إليهم. لم يكن هذا أكثر ما يؤلمه، فقد تأقلم مع فكرة أنه صار جزءا من المشهد، كعمود إنارة قديم أو مقعد مهمل. كان الألم الحقيقي في داخله، في ذلك الفراغ الذي ظل يتمدد عاما بعد آخر، يبتلع كل شيء كان يجعله يشعر بأنه إنسان.
في رمضان، الحياة تأخذ إيقاعا مختلفا. الناس يتعجلون العودة إلى بيوتهم، يحملون أكياس المشتريات، يتحدثون عن موائد الإفطار، عن التمر، عن الشوربة الساخنة التي ستملأ الأمعاء الفارغة بالدفء. لكنه، أي دفء ينتظره؟ أي مائدة؟ أي حديث؟
جلس على طرف رصيف بعيد، يراقب الشارع كمن يراقب فيلما لا علاقة له به. بجانبه، كان هناك رجل عجوز، ثيابه مهترئة، حذاؤه بالكاد يحمي قدميه. كان يدخن ببطء، وعيناه تحملان نظرة من رأى كل شيء ولم يعد يفاجأ بشيء. رمقه العجوز بنظرة جانبية وقال بصوت خافت:
— أنت جديد هنا، أليس كذلك؟
لم يرد يوسف، لكنه شعر أن العجوز لم يكن بحاجة إلى إجابة.
— لا شيء جديد في التشرد، قال يوسف أخيرا، كمن يتحدث مع نفسه.
ابتسم العجوز ابتسامة نصفية، ثم نفث الدخان ببطء وقال:
— الجديد ليس أنك بلا مأوى، بل أنك ما زلت تنظر إلى الناس وكأنك واحد منهم. انتظر قليلا… قريبا ستتوقف عن ذلك، ستصبح غير مرئي حتى لنفسك.
كلماته كانت باردة كليلة شتائية، لكنها تسللت إلى أعماق يوسف كطعنة بطيئة. هل كان هذا ما ينتظره؟ أن يفقد حتى إحساسه بوجوده؟ أن يتحول إلى ظل يتنقل بين الأرصفة دون أن يراه أحد، دون أن يرى حتى نفسه؟
نظر إلى يديه، إلى أصابعه التي كانت يوما تعرف الكتابة، تعرف العزف فوق طاولات المقاهي، تعرف كيف ترسم أحلامها في الهواء. الآن، بدت غريبة عنه، كأنها يد شخص آخر، يد لم تعد تخصه. هل يبدأ التشرد من الجسد ثم يصل إلى الروح، أم العكس؟
رفع رأسه إلى السماء. كان الهلال الرفيع يتألق في الأفق البعيد، إشارة صامتة إلى شهر الرحمة، شهر العودة، شهر الغفران. رمضان سيمضي، والناس سيعودون إلى حياتهم المعتادة، إلى بيوتهم، إلى أعمالهم، إلى أحلامهم المؤجلة.
أما هو… إلى أين سيعود؟
رفع رأسه إلى السماء، إلى الهلال الرفيع المتعلق في الأفق كعين تراقب بصمت. كانت السماء صافية، لكن قلبه مثقل بغيوم لا تمطر.
— إلى أين سأعود؟
سؤال تردد داخله كصدى في ممر طويل بلا نهاية. لم يكن يبحث عن إجابة، فقد صار يعرفها جيدا. لا بيت ينتظره، لا وطن يستدعيه، لا يد تمتد نحوه. حتى اسمه، ذاك الذي كان يردده الناس بحب، لم يعد له معنى هنا. في هذه المدينة، هو مجرد واحد من عشرات الأجساد الهائمة، التي تعبر الأرصفة ثم تذوب في الظلال.
نهض من مكانه، تناثر الغبار عن معطفه البالي، ثم مضى يسير دون هدى. الشوارع مكتظة، لكنه لم يكن يرى أحدا. الوجوه تلمع تحت أضواء المحلات، الضحكات تتطاير من شرفات المطاعم، والروائح… تلك الروائح، كانت تعذّبه أكثر من الجوع نفسه. رائحة الخبز الساخن، اللحم المشوي، الحساء المتصاعد بالبخار، كلها كانت تذكره بأنه يقف على حافة العالم، يشاهده، يشتم رائحته، لكنه ليس جزءا منه.
عند زاوية شارع ضيق، توقف. أمام مخبز، زجاج واجهته يلمع تحت ضوء المصابيح، وداخله كانت الطاولات ممتلئة بأشخاص ينتظرون أذان المغرب. التمر في صحون صغيرة، أكواب الشاي، الحساء، الأيدي التي تمتد، الأصوات التي تختلط بلذة الانتظار.
شعر بشيء داخله ينهار، ليس لأنه جائع، بل لأنه كان ذات يوم واحدا من هؤلاء. كان يجلس في مقهى بسيط في مدينته، ينتظر الأذان، يمد يده نحو التمر الأول، يشعر بالطمأنينة التي تأتي مع أول رشفة ماء. كان له بيت، أصدقاء، أم تحرص أن يملأ صحنه أكثر مما يحتاج، وأب يردد دعاء الإفطار بصوت عميق. والآن؟ الآن يقف خلف زجاج بارد، يتفرج، كأنه يتابع مشهدا من حياة لم تعد تخصه.
تحركت قدماه دون وعي، اقترب من الباب، كأن شيئا ما في الداخل كان يناديه. في تلك اللحظة، دقت الساعة الكبيرة في الساحة المجاورة، معلنة موعد الإفطار. ومع رنينها، شعر بيد توضع على كتفه.
— يوسف؟
تجمد في مكانه. الصوت لم يكن غريبا، بل كان صوتا من زمن آخر، من حياة أخرى. استدار ببطء، وقلبه يخفق كمن عاد فجأة إلى نفسه بعد تيه طويل. أمامه، كان يقف رجل في منتصف العمر، بملامح لم تتغير كثيرا، وإن أثقلها الزمن قليلا. عيناه كانتا تحملان الدهشة نفسها التي شعر بها يوسف.
— أهذا أنت حقا؟
ظل يوسف صامتا، لم يعرف إن كان هذا حلما، أم أن القدر قرر أخيرا أن يمد له يدا قبل أن يسقط تماما في العدم.
ظل يوسف متجمدا في مكانه، كأن الزمن توقف عند تلك اللحظة. الرجل الذي يقف أمامه لم يكن مجرد عابر سبيل، بل كان صوتا يأتي من خلف السنوات، من أيام كان فيها إنسانا له اسم ووجه وحياة.
— يوسف؟ ألم تعرفني؟
رمش مرتين، يحاول أن يستعيد ملامح هذا الوجه الذي بدا مألوفا، لكنه مغلف بغبار الزمن. عندها، اخترقت الدهشة صدره كطعنة مفاجئة.
— إبراهيم؟
أومأ الرجل برأسه، وعيناه تمتلئان بمزيج من الصدمة والفرح.
— يا إلهي، كيف انتهى بك الحال هنا؟
لم يجب يوسف. كيف يختصر في جملة واحدة كل ما حدث؟ كيف يروي حكاية التيه، والانكسارات المتتالية، والخسائر التي لم تتوقف؟ كيف يشرح تحوله من شاب طموح جاء إلى بروكسل باحثا عن مستقبل، إلى رجل بلا مأوى، بلا حلم، بلا حتى إحساس بأنه لا يزال حيا؟
كان إبراهيم يرمقه بحيرة، كأنه لا يصدق أن الصديق الذي شاركه سنوات التعليم الإعدادي، الذي كان يحلم بالكتابة، ويملأ دفاتره بالأحلام، هو نفسه هذا الرجل المرهق الذي يقف أمامه بمعطف بال ووجه غطته قسوة الشوارع.
— تعال، سندخل لنفطر معا.
قالها إبراهيم بلهجة لم تقبل الرفض، ثم مد يده ليجذبه نحو الداخل. للحظة، كاد يوسف أن يستسلم، أن يدع هذه اليد تنتشله من قاع غربته. لكنه توقف. شعر أن خطوته إلى الداخل ستكون أشبه بالخيانة… خيانة لكل الأيام التي عاشها في العراء، لكل الجوع الذي قاومه، لكل ليالي الوحدة التي حاول أن يعتادها. أيحق له أن يعود إلى عالم الأضواء بعد أن صار جزءا من العتمة؟
سحب يده ببطء، وهز رأسه.
— لا، لا يمكنني…
— لماذا؟
ابتسم يوسف، لكنها كانت ابتسامة حزينة، كمن أدرك متأخرا أنه تجاوز نقطة اللاعودة.
— لأنني لم أعد كما كنت… ولأنني لم أعد أعرف كيف أكون بينهم.
ساد صمت ثقيل. في الداخل، ارتفعت أصوات الضحكات، رنين الملاعق، وعبارات التهاني بقدوم الإفطار. كان العالم يحتفل بقدسية اللحظة، لكنه ظل واقفا في الخارج، على الهامش.
أخرج إبراهيم محفظته، وبحركة سريعة وضع بعض النقود في يد يوسف. لكن يوسف أطبق أصابعه على القطع المعدنية، ثم أرجعها بلطف.
— لا أحتاج نقودا، إبراهيم… كنت فقط بحاجة لأن أعرف أنني ما زلت موجودا في ذاكرة أحدهم.
ثم استدار، ومشى بعيدا. لم يكن يعلم إلى أين، لكنه كان يعلم شيئا واحدا: هذه الليلة، لن ينام في محطة الحافلات. هذه الليلة، سيظل يسير حتى يجد إجابة للسؤال الذي لم يتوقف عن مطاردته: إلى أين ينتمي من لم يعد له مكان في أي عالم؟
مضى يوسف في الشارع الطويل، خطوة بعد خطوة، وكأن المسافة بينه وبين ذاته القديمة تتقلص أو تتمدد، لم يكن يعلم. كل ما كان يعرفه أنه يهرب… من ماذا؟ من العيون التي رأت سقوطه، من اليد التي امتدت إليه فأحس بثقلها، أم من نفسه التي بدأت تتيقن أنها صارت كيانا منفصلا عن كل شيء؟
توقف عند ضفاف القناة التي تشق بروكسل، المياه كانت هادئة، تعكس ضوء المصابيح الخافتة، لكن قلبه كان ممتلئا بتموجات لا تهدأ. جلس على حافة الممر الحجري، أسند رأسه إلى الجدار، وأغمض عينيه.
في داخله، كان صراع يشتد… جزء منه يريد أن يعود أدراجه، أن يبحث عن إبراهيم، أن يسمح له بانتشاله من هذا الضياع. وجزء آخر، أكثر عنادا، كان يتمسك بما تبقى من كبريائه، يرفض أن يكون قصة أخرى عن ذلك الرجل الذي سقط، فأعادته الصدفة إلى الحياة.
شعر بحركة بجانبه، فتح عينيه ليرى رجلا آخر يجلس على الحافة ذاتها، رجلا بملابس قديمة لكنها مرتبة، يحمل في يده كتابا، ويبدو كما لو أنه يقرأ، رغم أن الضوء شحيح.
— أول ليلة لك هنا؟
كان الصوت هادئا، كأن صاحبه اعتاد أن يرى القادمين الجدد إلى هذا الركن المنسي من المدينة.
— لا… لكنني لم أعتد البقاء.
ضحك الرجل بصوت خافت، ثم أغلق الكتاب ونظر إلى يوسف بعينين تحملان شيئا غريبا… شيئا لم يره في عيون الآخرين: التفهّم، لا الشفقة.
— هذا ما نقوله جميعا في البداية… لكننا نبقى، ليس لأننا نريد، بل لأننا لا نجد طريقا للخروج.
صمت يوسف. لم يكن بحاجة إلى تفسير، فقد فهم المعنى جيدا. في كل مدينة، هناك عالم مواز، عالم تحت الأرض، يسكنه أولئك الذين خرجوا عن المسار، الذين أفلتوا من أيدي المجتمع وسقطوا إلى الهامش. المشكلة لم تكن في السقوط، بل في التعايش معه.
— ماذا كنت تفعل قبل أن تصل إلى هنا؟
سأل الرجل، وهو يعيد الكتاب إلى جيبه الداخلي.
تردد يوسف، كأنه يبحث عن إجابة. كان هناك زمن يمكنه أن يقول فيه بفخر: كنت حالما، كنت إنسانا يحمل بين يديه خيوط مستقبله. لكنه الآن؟
— لا أعرف… ربما كنت شخصا آخر.
أومأ الرجل برأسه، كأنه يفهم أكثر مما قيل.
— في النهاية، نحن جميعا قصص غير مكتملة.
أخرج من جيبه ورقة مطوية، مدّها إلى يوسف.
— هذه ليست صدقة، ولا تذكرة نجاة، لكنها عنوان. هناك مكان، بعيد عن هذه الزوايا الباردة، يستقبل من لا يزال يبحث عن طريق. اذهب إليه… أو لا تذهب، القرار لك.
ثم نهض، ومضى مبتعدا، تاركا يوسف مع الورقة المطوية، ومع السؤال الذي ظل يتردد داخله:
هل لا يزال هناك طريق للخروج؟
Discussion about this post