مسرح الأشواق
بقلم/ د. محمد عبد العزيز
في ذلك الفضاء الذي يكتنفه السُّكون، حيث تتناثر أحلامنا بين ثنايا اللَّيل كنجومٍ بعيدةٍ، ينفتح أمامي مسرح الأشواق. يعلو السِّتار، وتبدأ العيون في البحث عنك في الأفق البعيد، تقلبُ بصرها بين أطياف الذِّكريات التي تلاشت مع الزَّمن، وبين فُرص اللِّقاء التي تبدو بعيدة المنال. هناك، حيث لا صوت سوى صدى أفكارنا، وحيث لا حضور سوى خيالك، يصبح الحنين هو البطل الأوحد، والشَّوق هو النَّص الذي يتكرر في كل لحظة.
أقف على هذا المسرح، مثل بطلٍ قد نَسي نصه، ولكنَّه لا يزال يعي أن خطوته القادمة ستقوده نحوك.
أبحث عنك في كل زاوية، وفي كل همسة، وفي كل لمحة من الضَّوء تَسربت عبر نافذة القلب، فأراك أمامي كظلٍّ لا يزول. وفي غيابك يصبح الأمل بريقًا ضعيفًا يلوح في الأفق، مثلما يلوح بريق الأمل في عين العاشق بعد جرحٍ عميق.
أنتَ الحلم الذي يعيش في أضلعي، في كل نبضة يتناثر فيها اسمك بين خلايا قلبي، فأحسُّ بالألمَ يعبرني كما يعبر الفجر الظَّلام. نعم، كنتَ هناك في كل لحظة مرت، في كل كلمة كتبت، وفي كل نفس سكن بين شراييني. كنتَ هناك، مثل الزَّهر في الصَّباح، مثل الطَّيف الذي يتسرب إلى الرَّوح دون أن ندرك متى دخل.
لكن ماذا يحدث حين يكون الحب محاصرًا في جدران الغياب؟ ماذا يحدث عندما تكون المسافات أكثر من أن تُحْتَمَل؟ عندما يصبح الزَّمن أداة في يد الفراق؟ في هذه اللَّحظات، تنفجر في القلب أسئلة لا إجابة لها، ويعجز العقل عن إيجاد تفسير لهذا الصَّمت الذي أصبح غريبًا على روحٍ كانت تعيش تحت سماء واحدة، وتتنفس نفس الهواء.
إن مسرح الأشواق هذا لا يعترف بالوقت، لا يعترف بالحدود. هو عالمٌ لا يمكن أن نحدّه، عالمٌ يظل مفتوحًا، دائم الحركة، يضج بالحياة من خلال الذِّكريات، ويغرق في الخواء في لحظات الافتقاد.
أحيانًا، أُغمض عينيّ لأسمع صوتك في الرِّياح. أتمسك بكل بقايا صوتك، في كل حرفٍ حُفر في الذَّاكرة، فأحاول أن أستعيدك من بين طيات الزَّمن الذي أكلنا معًا. أتمسك بكل لحظة، بكلمة، بابتسامة، حتى وإن كانت تلك اللحظات قد صارت قديمة، تغلفها الغربة، وتكتنفها المسافات.
لكن لماذا يبقى الحب حيًّا في القلب رغم كل شيء؟ هل لأنه الأمل الذي نتمسك به، رغم أنف المحن؟ أم لأنه الطريق الوحيد الذي لا يملك القلب سواه؟!
لا يهم كم مرَّت الأيام ولا كم كانت قاسية، فكلما تباعدنا، وجدنا أن هذا البُعد هو الذي يزيد من لهيب الشَّوق. هو مسرحٌ، يظل ينقل لنا مشاهد متتالية من الألم والفرح، من الحزن والأمل، وبين هذه المشاهد تتداخل أرواحنا في عالمٍ لا يُرى، إلا بعيوننا التي تراقب الذِّكريات.
وأنا هنا، أتحرك على خشبة هذا المسرح، أؤدي دور العاشق الذي يحمل في قلبه كل لحظة كانت لنا، وأرسم بيديّ خطوط الزَّمن الذي جمعنا، وأظل أردد في داخلي: “لعل الزَّمان يعود، لعل المسافات تتلاشى، لعلك تعود كما كنتَ، تلك الأضواء التي أضاءت دروبي.”
ولكن، ماذا لو كانت العودة مستحيلة؟ ماذا لو كانت المراحل التي نعيشها، هي فقط دروسٌ قاسية تعلمنا كيف نحب أكثر، حتى في الغياب؟ فكما يقولون: “أجمل الأشياء لا تُرى، ولكنها تُحس.” وهذا ما يجعل الحب خالدًا. ليس في اللِّقاءات، بل في ذكرى اللِّقاء، فيما تركناه وراءنا، وفي كل لحظة تسكننا حين تذكّرنا بعضنا البعض في صمت، عندما تلتقي الأرواح وتتمايل في معزوفة لم نكن نعلم أن هناك من يطرب لها.
ومع مرور الأيام، يصبح الألم جزءًا من السَّعادة، وتبدأ روح العاشق في التَّكيف مع هذه الفجوة التي لا تزال تحتفظ في طياتها مكانًا لذكريات الحب الجميل. يصبح الشَّوق رفيقًا دائمًا، يتنقل بين أعماق القلب، مثل الأمل الذي يبقى رغم الرِّياح العاتية. والأهم أن المسرح لا يتوقف، فلا يزال يشهد على قصتنا، ويبقى العرض مستمرًا، حتى ولو لم تكتمل فصوله، وحتى ولو بقيت نهايته مفتوحة.
أما أنا، فأظل هناك، في مكانٍ ما، على خشبة مسرح الأشواق، أبحث عنك في الأفق الذي لا ينتهي، وفي الهواء الذي أتنفسه، وفي نبضات قلبي، وأنتظر.
د. محمد عبد العزيز
Discussion about this post