المُبدع الحقيقي منعزل عن محيطه، رغم أنّ ما يُنتجه يرتكز على ما خَبِرَهُ من تفاعلٍ مع الحياة.. هذا الانعزال الّذي يترسّخ يوماً بعد يوم، خصوصاً بعد إنتشار وسائل التّواصل الإجتماعي، يَعدّه كثيرون تقاعساً يُبديه ذلك الكائن المثقّف الّذي ينبغي أن يكون دوره منسجماً مع حاجات المجتمع، ومخلصاً لقضايا الإنسان ونهوضه بها، ولا أعرف على وجه التّحديد لماذا تصرّ مجتمعاتنا العربية على تحميل المبدع وزر وظيفة كهذه تشبه، إلى حد بعيد، دورَ المعلم أو المصلح الاجتماعي؟
على مرّ الأزمنة، وفي جميع المجتمعات، لطالما عَبّر المبدعون عن تقاطع في رؤاهم مّع ما كانت تفكر فيه بقية النّاس الّتي تحبّ وتكافئ من يستطيع تخديرها بالأوهام، كما يرى الفيلسوف الألماني فرديريك نيتشه، لأنّ البشر، منذ القدم، لا تُعاقِب إلاّ من يقول الحقيقة، أو في أقل تقدير، فإنّ المبدع المُنقّب في معنى المعرفة الحقيقية يجد نفسه غريباً وسط ما تبحث عنه العامّة الّتي لديها فضولٌ شَرِه لمعرفة كل شيء، باستثناء ما هو يستحق المعرفة حقاً، وفقاً للكاتب الأيرلندي أوسكار وايلد.
محلياً، قد ينطبق هذا الكلام على مبدع آثر الإنعزال منذ زمن، إنّه عبد الرّحمن طهمازي الّذي انزوى في ركن من بيته، مُكتفياً بما ينتجه من “كتابات” لنفسه، ولثلّةٍ من الآخرين الّذين يتناغمون مع آلية تفكيره.. وفي مكالمة عبر الأطلسي، أخبرني مبدع عراقي أصيل أنّه تحدّث مؤخراً مع طهمازي الّذي أكّد له أنّه يواصل ذلك الانعزال حتّى وهو يعيش خريف عمره..
طهمازي الّذي “قرّظ الطبيعة” قبل عُقود، وحقّق لنفسه منزلةً خاصة ككاتب ومفكّر في حقبة “ما بعد الحداثة”، المشبّع بالإرث الحضاري للثّقافة العربية، عَمِلَ “مُدرّساً” بلا كلل، وكان مُتناغماً مع محيطه، لأنّه كان يؤدّي “وظيفة” مُعرّفة بالمعنى الإجتماعي، لكنّه كان، ولا يزال، كاتباً مُبدعاً اشتغل لوحده في حيّز مغلق، لأنّه كان يعي حجم الفراغ المعرفيّ الّذي يفصله عن “الوسط”، وأمضى عمره غير معني بهذا الإنفصال.
يُخطئ من يظنّ أنّ عزلة المثقف وغرابته تكمن في كونه لم يفهم الواقع الّذي يعيش فيه، ولم يبذل أيّ جهد لمعالجة ذلك، فالمثقّف الّذي يراه نعوم چومسكي، أنّه “مَن يحمل الحقيقة في وجه القوّة”، يدخل في إشكالية وجودية تتمثّل في أنّ تلك “الحقيقة تمثّل اعتباراً ثانوياً، لدى غالبية النّاس الّذين لا يكترثون لمعرفتها، لأنّ آراءهم مُصمّمة بالأساس لجعلهم يشعرون بالرّاحة”، كما يرى الفيلسوف الإنكليزي برتراند رَسل، والأنكى من ذلك كله، نجد أدعياء الثّقافة يتبجحون بمناقشة آخر تطبيقات “الذّكاء الأصطناعي” عبر وسائل التّواصل الإجتماعي، لإثبات “عصريتهم وحداثتهم”، فيما يتغاضون عن بحث حاجة مجتمعاتهم لتنمية قطاعات أساسية متعلّقة بحياة أولئك النّاس، وهي تشهد تراجعاً مخيفاً مثل التّربية والتّعليم والصّحة والسّكن..
علينا أن نؤمن أنّ المبدع ينتج ما يراه مناسباً لرؤيته، فمن يجد في الإطلاع عليه متعة، فبها، ومن لا يجد ذلك فليتجاوزه بهدوء.
Discussion about this post