سلسلة تسرد
التُّراث الشَّعبي في رمضان
بقلم/ د. دعاء محمود
يهل رمضان محملًا بشتى أنواع البركات، فرحةٌ تغمر أرجاء العالم، وتُظهر أفضل صفات المسلمين في كل مكان.
نطوف معكم اليوم في بلد جديد، وعادات وتقاليد الشَّهر الفضيل.
ماليزيا في رمضان، روحانيةٌ لا تنسى نصيبها من الدُّنيا.
تهبّ نسائم شهر رمضان الكريم على المسلمين في ماليزيا كما على إخوانهم في كل مكان، تسمو أشواقهم لتستقبل نفحاته الرَّوحانية، وتسعى نفوسهم للترقي في مدارج المؤمنين السَّائرين في طاعة ربهم.
تحلّ مواسم الخير والبهجة والتَّواصل طوال أيام هذا الشَّهر الفضيل، وتمتزج روح الإسلام الحنيف بالعادات والتَّقاليد المالايوية الأصيلة، ويحرص الماليزيون على إظهار فرحهم بالحفاظ على طقوس دينية متوارثة جيلًا بعد جيل.
تبدأ التَّحضيرات لرمضان منذ آخر ليلة في شهر شعبان، وتقام ولائم العشاء، تجتمع العائلات معًا، يبتهلون إلى الله تعالى بالدعاء أن يبلّغهم صيام رمضان وحسن العبادة فيه، تتزين الشَّوارع وتُضاء احتفاء بالشَّهر المبارك.
للمساجد دورها في رمضان بماليزيا:
تأخذ المساجد دورها وتتحول إلى أماكن لتجمع العائلات في المدن والقرى، ينتظم الجميع صغارًا وكبارًا في فعالياتٍ رمضانيةٍ لا يكاد يخلو منها يوم من أيامِ الشهر الكريم.
تنطلق الرِّحلة الإيمانية في وقت العصر، وتجتمع العائلات الماليزية في المساجد، وتبدأ التَّحضيرات لتناول وجبة الإفطار، تمتلئ ساحات المساجد بمجموعات كبيرة من الصَّائمين، ويرحبون بأي زائر أو عابر سبيل ليكون ضيفهم على المائدة الرَّمضانية.
بعد الإفطار وصلاة المغرب يواصل معظم الحاضرين المكوث في المساجد حتى صلاة العشاء ثم التَّراويح، وفي العشر الأواخر يواصل كثير منهم المكوث لصلاة القيام والاعتكاف حتى صلاة الفجر.
وتوفر إدارات المساجد في المدن والقرى تسهيلات خاصة بهذا الشَّهر؛ لتشجيع العائلات على الاجتماع، فهناك ترتيب للإفطارات الجماعية، وأماكن خاصة لرعاية الأطفال والاهتمام بهم خلال انشغال الآباء في الصَّلاة، وتتوفر فيها الألعاب والمسابقات والفعاليات المسلية، ويشرف عليها موظفون متخصصون.
القيام والقرآن:
تولي السلطات الدينية في ماليزيا اهتمامًا بالغًا بصلاة التَّراويح وقيام اللَّيل في شهر رمضان المبارك، باعتبارها واحدة من أهم مشاعر الشَّهر الكريم.
ويتم اختيار الأئمة والقرّاء لأداء هذه السُّنة في معظم المساجد الرَّئيسة في البلاد، كما تستضيف الحكومة والجمعيات الخيرية عشرات الأئمة من خارج البلاد ويوزعون على المساجد في العاصمة وفي الولايات المختلفة لترغيب النَّاس بصلاة التَّراويح وابتكار أساليب جديدة في مجال الدَّعوة للإسلام.
وتؤدى صلاة التَّراويح في معظم المساجد، عشرون ركعة ويحرص بعض الأئمة على ختم القرآن فيها خلال الشَّهر، تتخللها جولات من الأذكار والتَّسابيح، والصَّلاة على النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، والدعاء في فترات الاستراحة بين الركعات، كما يقدم بعض الأئمة فقرة ابتهالات دينية عقب انتهاء الصَّلاة.
ولا تغيب أصوات المقرئين الكبار عن مساجد ماليزيا، ويعدّ تقليد القراء سمة بارزة للأئمة في مساجد ماليزيا، ويستمتع المصلون بأصوات أئمة الحرمين المكي والمدني، والقراء القدامى كعبد الباسط، المنشاوي، الحصري، وغيرهم، ويصلي بعض الأئمة كل ركعتين مقلدًا أحد القراء الكبار.
وقبل البدء بصلاة التَّراويح تخصص لجان المساجد فقرة ضللإعلان عن الفعاليات التي ستقام في المسجد كالاحتفالات، الإفطارات، الدُّروس،المحاضرات، ضيوف المسجد، وأحيانَّا يعلن عن حجم التَّبرعات التي قدمت لرعاية شؤون المسجد، كما يُعلن في بعض الحالات عن طلب الدعاء للموتى.
ويعدّ يوم السَّابع عشر من رمضان يوم عطلة في أغلب الولايات الماليزية، إذ يحتفل الماليزيون في ليلته بمناسبة نزول القرآن، وتنظم في هذه المناسبة احتفالات كبيرة على مستوى البلاد بمشاركة الملك ورئيس الوزراء والمسؤولين في جميع الولايات، كما يحتفل في إحدى ليالي العشر الأخيرة بختم القرآن.
البازارات الرمضانية:
تعدّ الأسواق الرمضانية من أبرز مظاهر شهر رمضان في ماليزيا وتكتسب بعدًا سياحيًا، وتقيم وزارة السِّياحة حفلًا رسميًا لتدشين افتتاحها كل عام، وتعمل على توفير أجواء رمضانية سياحية فيها.
وتنتشر “بازارات رمضان” في معظم مناطق ماليزيا ويمتد وقت معظمها إلى السَّحور، كما تعمل بعض مراكز التَّسوق الكبيرة على تخصيص زوايا فيها لهذه الأسواق.
وتشجع الحكومة على إقامة أسواق رمضان لأنها تقدم فرصًا للمواطنين المعنيين بتحسين عائداتهم المالية بسبب الإقبال المغري على هذه الأسواق، كما يخصص جزء منها لمشاريع إفطار الصَّائم، ليمتزج العمل والتِّجارة بالعبادة والإحسان.
تزيين الشَّوارع في رمضان:
بعض شوارع العاصمة تتزين في رمضان
وتحتوي الأسواق الرمضانية على المصنوعات اليدوية والتحف التَّقليدية والملابس، كما تضم أسواق الطَّعام والحلويات الخاصة برمضان واستقبال العيد، ويقصدها الماليزيون كنوع من الاحتفاء بهذا الشَّهر إضافة إلى قربها وسهولة الوصول إليها، وتوفر معظم ما يحتاجون إليه بأسعار مناسبة.
وتقام في بعض هذه الأسواق عدد من المهرجانات والفعاليات الرَّمضانية التي تستهدف السُّياح والمواطنين كجلسات الابتهالات والمدائح وعروض الموسيقى والرَّقص التَّقليدي.
ولا يجد السَّائح صعوبة في الحصول على إفطاره لتعدد المذاقات وتنوعها، كما لا يجد الصَّائم حرجًا في الحصول على طعامه في أي مكان لشيوع ثقافة الطعام الحلال.
خلال الشَّهر الفضيل تُقام مهرجانات ضخمة للتسوق، استعدادًا لاستقبال العيد الذي يعد من أكبر مواسم التَّسوق عند الماليزيين، وترتبط هذه الأسواق بشبكة حديثة ومتطورة من القطارات ووسائل المواصلات الأخرى المتوفرة بأسعار تناسب الجميع.
تقاليد الطعام:
وكما هو الحال في كثير من البلدان، فإن لشهر رمضان وجباته الخاصة ومذاقاته التَّقليدية المميزة، وفي ماليزيا يتجاوز ذلك لتصبح وجبات الطَّعام أشبه بالطُّقوس التي تتوارثها الأجيال.
حساء البوبر لامبوك:
أحد هذه الأطعمة؛ حساء كثيف مكون من الأرز وحليب جوز الهند واللَّحم والرُّوبيان المجفف والثَّوم والبهارات.
وتعدّ قدور كبيرة منه، ويقوم السكان بتحضيره في البيوت لتوزيعه، كما يتم إعداده وطبخه في كثير من المساجد ليوزع على المصلين في وجبة الإفطار.
ويبدأ التَّحضير لطهوه منذ الصَّباح ويوزع على النَّاس عصرًا ليكون طعامهم على الإفطار، ويحضر منه في بعض المساجد عدد من البراميل لتوزيعها على الصَّائمين.
أما طبق اللِّيمانغ:
يتكون من الأرز وحليب جوز الهند والبهارات، فيطهى بالطَّريقة التَّقليدية على الحطب، في الخيزران وأوراق شجر الموز.
وفي العاصمة الماليزية كوالالمبور وغيرها من المدن تنتشر بسطات الطَّعام المتنوعة التي تعرض موائد الطَّعام على شكل بسطة تحت مظلة، وغالبًا ما تحضر وجبات الطعام المتنوعة في هذه البسطات في البيوت.
وتنتشر في أماكن ازدحام النَّاس كمحطات القطار والأسواق والمجمعات السَّكنية، ويلجأ إليها من تفرض عليهم طبيعة أعمالهم التَّأخر في أيام رمضان لتأمين وجبات متكاملة من الغذاء وبأسعار رخيصة نسبيًا.
وتعرض الوجبات بشكل مفتوح (بوفيه) فيتيح ذلك للمستهلك أن يختار ما يشتهي من الأطباق المعروضة، وبالكمية التي يريد، وكل بسطة تعرض أصنافًا متنوعة من الوجبات.
فأطباق الخضار على حدة والطَّعام المطبوخ له بسطته، وكذلك بقية المأكولات الأخرى كالشِّواء، الحساء، العصائر والحلويات، حيث توزع هذه الوجبات -فيما يبدو أنه اتفاق- بين البائعين في المنطقة الواحدة وحسب التَّخصص.
وتتربع حلوى بوتو بيرنغ على قمة قائمة الحلويات المفضلة عند الماليزيين في رمضان:
وهي عبارة عن جوز هند وقليل من الدَّقيق والسُّكر تحشى بالمكسرات.
تُوضع المكونات في قالب قمعي الشَّكل وتلف بالقماش وتوضع على خزان مستدير له فتحات في سطحه مخروطية الشَّكل يتصاعد منها البخار، ويتم إنضاجها على بخار الماء المتصاعد.
أما العصائر فمتنوعة حسب طبيعة الفواكه الموجودة في جزر الأرخبيل المالاوي، غير أن أكثرها انتشارًا هو عصير جوز الهند الذي يتناول طازجًا من ثمرته، وقصب السُّكر الذي يروي ظمأ الصَّائمين.
رمضان شهر الخير والإحسان، أعاده الله علينا وعليكم بالخير واليمن والبركات.
الكاتبة الصَّحفية/ د. دعاء محمود
مصر
دعاءقلب
Discussion about this post