العراقي عاشق المسرح مازن فارس السامي يكتب:
عن العرض المسرحي ( بغداد 41 )
لست بصدد كتابة مقالة نقدية ولا منشور للدعاية والترويج للمسرحية غير أنّي أردت أن أكسر يميني أي الحلفان الذي قطعته على نفسي بعدم الذهاب لأي عمل مسرحي ( شعبي ) سواء بمفردي أو بمعية عائلتي ولأكثر من عقدين ، بصراحة ما قرأته وشاهدته على صفحات التواصل الاجتماعي أثار عندي الفضول وربما حفزني لأن أكون حاضرا وأرى بأم عيني وأسمع بملء مسامعي فحضرت العرض .. وكان لزاما علي كوني مهتما ومتابعا بالشأن المسرحي .
وبكل صراحة وبتجرد وجدتني متماهيا مع المسرحية ،وعشت لحظاتها لحظة بلحظة، ووصل بي الإيهام
إلى حد شعوري بأني فعلا في أعيش تلك الحقبة الزمنية بمفرداتها ودقائقها وكأنّي أحد أفراد ( الحوش ) أو
أحد الاطفال الذين يلعبون في تلك الأزقة التراثية ، ووجدتني منجذبا مع مايدور ويحدث بمتعة ودهشة
وشغف فرضه عليّ الجو العام للمسرحية فكان للزمان والمكان أثرهما الوجداني الرائع لأتابع العرض بكل حواسي ، فكنت جزءا من
أحداثها وهذا بالتأكيد يحسب للمؤلف الدكتور ( عقيل العبيدي ) والمخرج الشاب ( دريد عبد الوهاب )،
كلاهما استطاعا أن يخلق جوا عاما يمس القلوب ويعود بالذاكرة لأيام الزمن الجميل الذي افتقدناه في
خضم العولمة ، وعالم السوشيال ميديا وغيرها من السمع مرئيات التي حنطت ذائقة المتلقي في قالبها .
وأعود للمسرحية التي استلهم بها الايقاع على حركة عين المشاهد في تتبع الترتيب المنتظم أو تكرارا
للعناصر المرئية وبصورة تلقائية عفوية وكأنها غير مقصودة وهنا ذكاء ( القصدية ) ، فكان للمسرحية
بنية ومعالجة ورسالات وقنوات تعبير جمالية وفكرية يبثها مرسلون ، تارة ممثل وأخرى ضوء ، ومرة
حركة وصوت ، عمل الجميع على تحقيقها وأجادوا .. كل ذلك اجتمع بنص هادف نظيف هادف خالي
من الإسفاف والتدني و ( الشوائب ) والحركات الممجوجة والجمل المخدشة للحياء والذوق العام .. لغة
سهلة لينة واضحة وضاءة ( لغة أهلنا ) اللغة التي افتقدناها ودخلت بديلا عنها الكلمات والاصطلاحات
المستوردة والدخيلة بحجة التطور والثقافة ، وهنا سألخص مجمل وجهة نظري بالمسرحية .
1 ــ العودة والرجوع الى الزمن الماضي يعني العودة الى بساطة الحياة والمجتمع معا ،وقد نجح العرض
بأخذنا لرحلة عبر الزمن على مدى أكثر من ساعتين لنعيش أجواء تلك الفترة وقد كانت اشبه بحلم.
ـــ لذيذ لا نريد انتهائه ، إذ استطاع العرض المسك بتلابيب المتلقي ليجد نفسه متماهيا متفاعلا ومندمجا، وكأنه جزء من ذلك التأريخ وبكل تجلياته .
2 ــ الرجوع والعودة للموروث الشعبي المفعم بالجمال والطيبة ، النخوة ، العفوية ، التلقائية ، البساطة
والأصالة ، وكل هذا ممزوج بالفولكلور البغدادي القديم ( مشاهد الطهور ) الختان وطريقة الاحتفال
بالأعياد الدينية ، وممارسة بعض الالعاب سواء للكبار والاطفال ومنها ( اللكو ) وهو نوع من انواع
الرهان فيه خاسر وغالب .. وألعاب الأطفال ( التوكي ، الطمّة خريزة ، وغيرها ) والتي انقرضت
للأسف ولم يعد لها أثر في الازقة الشعبية .
3 ــ الرجوع بالذاكرة للأغاني الفولكلورية لسفير الاغنية العراقية المطرب الراحل ناظم الغزالي وما
تحمل من معاني وألحان تراثية ما تزال عالقة في الذاكرة والقلوب .
4 ــ التأكيد على اللحمة الوطنية بعيدا عن النعرات الطائفية والمذهبية والعرقية فتذوب كل الخلافات
الشخصية والداخلية حين يداهم الخطر ( الحوش ) كرمزللوطن .
5 ــ الابتعاد عن الاسفاف والتدني والابتذال والذي طغى ولازم المسرح الشعبي خلال الثلاثة عقود
الماضية، وتقديم كوميديا بيضاء نظيفة هادفة تتوافق مع الحس الفكاهي العفوي المبني على المفارقة
وليس الإضحاك من أجل الاضحاك ، وفي بعض المشاهد والحوارات تنحو المسرحية نحو الكوميديا
السوداء من خلال التعاطي مع ( التابوهات ) بشكل فكاهي ساخر مع الاحتفاظ بجانب الجدية ،وأحيانا
بالتورية من خلال إسقاطاتها على الواقع الحالي لأجل تحقيق الصدمة والتنبيه والتوجيه وطرح
تساؤلات ومفارقات ،فيما يخص تناول بعض التابوهات كما اسلفت وجعل المتلقي يشارك في إيجاد
الحلول وحتى النقد في أمور ( اجتماعية ) ترفضها الأعراف والتقاليد والعادات ، ضمن مواقف تجبر
المتلقي على التفكير بها ،واتخاذ قرار في شأنها ، ومنها قضايا حقوق المرأة ونظرة المجتمع الشرقي
أليها ومنها زواج القاصرات ، الفوارق الطبقية ، التكتلات الأثنية ، الديانة ، المعتقدات ..
6 ــ النجاح في تسليط الضوء عى الثورة الوطنية للضباط الاحرار عام 1941 م بقيادة رشيد عالي الكيلاني ضد النظام الملكي التابع لبريطانيا ،ونجاح الثورة لولا تدخل الانكليز لحماية مصالحهم ، واحتلالهم للمدن العراقية والوصول الى بغداد وما صاحب ذلك من هرج ومرج وسرقات وسطو وسلب ونهب من قبل مجاميع من الخارجين عن القانون واللصوص والعواطلية، وكما يعرفون
بـ ( الشقاوات أو الخوشية ) وهم أصحاب الإتاوات في ظل غياب الرقيب، وضعف الدولة ،وإسقاطة هذه الأحداث لما جرى عام 2003 إبان الاحتلال الامريكي والتحالف الدولي للعراق وسقوط بغداد
8 ــ الحب هو الحب .. والعاطفة هي العاطفة .. لكن ..!! عودة لكل ماذكر فللعرف و( التابوهات )
كلمتها .. ( نور وسنية ).. حب طاهر لم يعترف بالفوارق الطبقية فنور طالب في كلية الطب
المرحلة الاخيرة وسنية بائعة الكُبة .. معوقات ، ألغام ، ومفارقات .. و( ناظم ) المطيرجي مربي
الطيور والشقاوة حجر العثرة والعذول .. ولم يحول لكن .. فارق الدين قال كلمته .
9 ــ عراب المسرحية ، عراب الحوش والمحلة الحاج ( عباس ) مختار المحلة ، الأب الروحي للجميع
( سكنة الحوش باختلاف اطيافهم واصولهم ) والوقوف على مسافة واحدة من الجميع إلا الخارجين
عن القانون والسراق ومنهم ( الفتاح فال ) المشعوذ الذي يعتاش على الدجل والضحك على ذقون
البسطاء والنساء بالذات من خلال التنجيم وقراءة الطالع وما يترتب على ذلك من اغواء ..
10 ــ الغرب بكل مغرياته لن يكون ملاذا آمنا ولن يستطيع قلع جذورنا المرتبطة بوطننا وأهلنا وعاداتنا وتقاليدنا الاصيلة وإرثنا .. الرفاهية والسعادة خارج الوطن كذبة كبيرة وحلم يراود الكثيرين لكن يبقى الأعز هو الوطن وهو اغلى من المال والبنون والجاه وكل مادونه خواء .
( تجربة سعودي حفيد المختار ) يحكيها لنا في مستهل المسرحية وكيف عاد الى الحوش عودة الطائر لعشه .. في اتحادنا قوتنا وفي فرقتنا ضعفنا ولن يطمع بنا عدو ولا أجنبي إذا ما اتحدنا وكنا يدا بيد .
11 ــ نجحت المسرحية في تقديم عرض رائع ذي فرجة مسرحية شعبية على المستوى الجمالي البصري والصوري ناهيك عن
الحركة المدروسة والحوارات المتوهجة فكانت الموازنة والتوافق وخلق هارموني رائع طيلة
ساعتي العرض ، من خلال المرونه الجسدية للممثلين والصوت المعبر والحركة والتعبيروالخيال،
والإحساس والرقص التعبيري والموسيقى، وهذا ما شارك في تقديم صورة جمالية متماسكة مؤثرة .
مازن فارس السامي / بغداد في 8 / 1 / 2025
مشرف تربوي / ماجستير علم الاجتماع / تدريسي
Discussion about this post