البحث عن العدل
قصة قصيرة
بقلم/ د .عبد الفتاح العربي
دخل غرفة مكتبه و جلس على الكرسي، أشعل سيجارته الكوبية و نفخ دخانها عاليًا ،تذكر أن مربية الأولاد لم تتقاضى أجرتها منذ شهرين فناداها…جوليا..جوليا
جاءت و دخلت المكتب بخطى ثقيلة
قالت : نعم سيدي
قال لها: اجلسي يا جوليا …ناديتك لأحاسبك…كيف لم تطلبي أجرتك مع أنك بحاجة لذلك لكنك خجولة .حسنا …لقد اتفقنا على مائة و خمسين دينار في الشهر
قالت : مائتين دينار
قال لها: مائة و خمسون دينار و هذا مسجل عندي و قد كنت أدفع نفس المبلغ للمربية السابقة.
قالت : حسنًا
قال لها : إذًا شهرين …ثلاثمائة دينار
قالت له : شهرين و أسبوع
قال لها : شهرين و هذا مسجل عندي
قالت : لا بأس ما دام مسجل عندك
قال لها: لكن لديك عطلة الأسبوع… ثمانية أيام لم تشتغلين فيها
المجموع أربعون دينار
قالت : أتيت المنزل و تنزهت مع الأولاد
قال : بالضبط أتيت و لم تعلم الأولاد بل تنزهت وأنا لا أدفع لك للتنزه…ما بقي لك مائتين و ستون دينار، ثم ثلاثة أيام أعياد تخصم .
رآها ترتعش و تلف بأصابعها فستانها و الغيض يأكلها، واصل..
ما تبقى من الأجر مائتين و خمس و أربعون دينار…كذلك كنت تدرسين لمحمد أما علي فكان مريضًا مدة أربعة أيام … زائد أنك كنت مريضة و سمحت لك زوجتي بالحضور أربعة أيام صباحًا فقط مما يجعل الخصم يفوق أو ما يعادل عشرون دينارًا …إذًا ما تبقى مائتان و خمس و عشرين دينارًا بالتمام و الكمال … مضبوط؟
إحمرت عيناها و أدمعت عينها اليسرى و سعلت و تمخطت و أرخت رأسها وأذعنت دون أن تنبس بكلمة واحدة..
قال لها: في رأس السنة عندما كنت بالمطبخ كسرت فنجان من طاقم أهدته لي أمي فهذا ثمنه غال ليكن ثمنه عشرون دينارًا ،كذلك كان ابني محمد يلعب بالحديقة و تقطع سرواله و هذه من مهماتك في الحفاظ على الأولاد و هذا ثمنه أربعون دينار و زد أن الخادمة قبل أن نطردها سرقت حذاء زوجتي و هذا من مهامك في مراقبة كل شي بالمنزل فيخصم منك ثلاثون دينارًا و قد دونت في الكراس أنك استلفت مني مبلغ عشرون دينارًا فهمست بصوت منخفض لم آخذ فقال و لكنني دونت ذلك فقالت حسنًا فليكن…فقال المجموع و ما تبقى من مرتبك مائة و خمسة عشر دينارًا .
امتلأت عيناها دموعا و تصببت عرقا حتى سال على أنفها الطويل و قالت وهي مطأطأة رأسها و بصوت لا يسمع حتى قال لها ارفعي صوتك فقالت لقد أخذت مبلغ خمسة عشر دينارًا من زوجتك فقال لها : أحقًا …قالت : نعم… فرد عليها أرأيت لم أسجل ذلك بالكراس و كأنها أرادت أن تبرهن مدى أخلاصها و صدقها ..فقال :حسنًا ..إذا ما تبقى هو مائة دينار .
أدخل يده لجيبه و سلمها خمس ورقات بعشرون دينارًا ..أخذت المبلغ بيد مرتعشة و همست ..شكرًا.
انتفض واقفًا و أخذ يمشي ذهابًا و إيابًا في الغرفة وهي واقفة مطأطأة رأسها و تراقبه مرتعشة؛ استولى عليه الغضب و قال لها: علام تقول لي شكرًا ..قالت على النقود فقال: ولكنني سلبتك مالك وما تستحقين هو أكثر من ذلك بل بالأحرى سرقتك وأنت تعلمين ذلك وسكتت على حقك وأنت تشكرينني
فقالت : ولكن في أماكن أخرى قد اشتغلت أكثر و لم أتسلم مليمًا واحدًا.
قال : لم يعطوك قالت : نعم فقال : أليس هذا غريب ..لقد أردت فقط أن ألقنك درسًا قاسيًا لن تنساه في حياتك، لقد جهزت لك المبلغ كله في ظرف آخر وها هو وسلمها إياه ومدت له المبلغ السابق فقال لها : اتركه عندك فأنت تستحقين ذلك، لكن لماذا أنت عاجزة لهذه الدرجة. لماذا لا تحتجين، لماذا لا تعبرين، لماذا تسكتين، هل تعرفين أن في هذه الدنيا لا بد أن يكون لنا أنياب، هل أنت مغفلة لهذه الدرجة أم عاجزة قرأ على وجهها العجز فعلا ولكنها ابتسمت.
طلب منها الصفح على هذا الدرس القاسي وسلم عليها فشكرته بخجل وغادرت.
تابعها بنظرات حائرة وفكر قائلا : هل يمكن في هذه الدنيا أن يكون الإنسان عاجزًا، ما أبشع أن يكون الإنسان ضعيفًا في هذه الدنيا و بهذه الدرجة .
الكاتب.د .عبد الفتاح العربي
تونس
Discussion about this post