الحلم الأزرق
هاجر، تلك الفتاة التي كانت تكابد صعوبات الحياة بكل صبر، وجدت نفسها منذ نعومة أظافرها تحمل على عاتقها هموما تفوق سنوات عمرها. لم يكن البيت الذي تأوي إليه سوى جدران باردة وزوايا ممتلئة بالصمت والحزن. كل صباح، تستيقظ قبيل طلوع الشمس، تحتسي بقايا قهوة الأمس، وتغسل وجهها بماء بارد يشبه قساوة أيامها، ثم تبدأ رحلتها اليومية المعتادة.
في المطبخ، حيث تتراكم الأواني المتسخة، تأخذ هاجر كيس الطحين، تضيف إليه قليلا من الملح والخميرة، وتبدأ في عجن الخبز بيدين أرهقهما العمل، لكنها كانت ترى في ذلك العمل مصدر أمل ضئيل. بعد أن تختمر العجينة، تشكّل الأرغفة، وتضعها في الفرن لتخبزها، ثم تذهب إلى السوق لتبيعها على طاولة خشبية صغيرة، تجلس خلفها وهي تراقب المارة بأعين مليئة بالأمل والحزن معا.
توالت الأيام، وظلت الحياة تدور في نفس الدائرة المغلقة. لا تغيير، لا فرج. سمعت هاجر ذات يوم من صديقاتها أن هناك من يعبرون البحر بحثًا عن حياة أفضل، وأن رجلا يعرفه الجميع يقدّم المساعدة مقابل مبلغ مالي معقول. بدأت الفكرة تتغلغل في ذهنها،فدأبت تُلملم دريهماتها القليلة من بيع الخبز حتى اكتمل المبلغ المطلوب.
في ليلة باردة، حيث ساد الصمت في أرجاء الحي، رنّ هاتفها ليُخبرها بأن الرحلة قد حان موعدها. ارتدت ملابسها، وضمت حقيبة صغيرة إلى صدرها، كأنها تخشى أن تفارقها. انطلقت تحت جنح الظلام كطائر صغير يبحث عن الحرية. وصلت إلى القارب الذي كان يُبحر بين الأمواج المتلاطمة كجذع شجرة مهترئ. جلست بين المهاجرين الآخرين، وكلّهم يحملون ذات الحلم: العبور إلى الضفة الأخرى، حيث ينتظرهم المجهول.
كانت الرحلة أشبه بصراع مع القدر. الأمواج ترتفع وتكاد تبتلع القارب، والرياح تعصف بأجسادهم الهزيلة، لكن الأمل الذي يسكن أعماقهم كان كفيلا بأن يمنحهم القوة للاستمرار. وبعد ساعات طويلة من المعاناة، لاحت لهم أضواء مدينة إسبانية ساحلية، وكأنها شمعة تنير ظلام أيامهم.
وصلت هاجر إلى الشاطئ، لكنها سرعان ما شعرت بالغربة والضياع. لم تكن تعرف أحدًا، ولم تكن تتحدث اللغة الإسبانية. تجولت بين الشوارع المزدحمة، تحمل حقيبتها الصغيرة التي بدت أثقل من أي وقت مضى. كل من كانوا معها في القارب تفرقوا، بحثا عن ملاذ أو فرصة عمل. بقيت هي وحيدة، تتأمل الوجوه الغريبة والنظرات التي كانت تلاحقها.
بعد أيام من التشرد، والجوع، والنوم على الأرصفة، توقفت أمام دكان صغير لرجل يُدعى “خوان”. كان “خوان” رجلا طيب القلب، يتحدث بضع كلمات من العربية بسبب احتكاكه بالمهاجرين. لمح هاجر بعيونه المليئة بالتعاطف، وسألها بلطف: “هل تحتاجين مساعدة؟”.
هزّت رأسها بالإيجاب، وبدت كلماتها مختنقة بالدموع: “نعم، سيدي. أبحث عن مأوى ولو بسيط.” دعاها للدخول إلى دكانه، وقدّم لها بعض الطعام والماء. جلسا يتحدثان، وعرض عليها مساعدته في إيجاد عمل.
بدأت هاجر العمل في مخبزة صغيرة يملكها أحد معارف “خوان”. كانت تنظف المكان وتغسل الأواني، لكنها كلما لمست الطحين أو استنشقت رائحة الخبز، عادت بها الذكريات إلى أيامها في بلدها، عندما كانت تعجن الأرغفة وتبيعها للناس.
في ليلة غاب فيها صاحب المخبزة، وجدت هاجر نفسها وحيدة في المكان. شعرت بشوق جارف إلى العجن والخَبز. دخلت المطبخ، وبدأت تصنع الخبز كما اعتادت في وطنها. أعدّت أرغفة مغربية تقطر دفئا ونكهة.
عندما عاد صاحب المخبزة صباح اليوم التالي، وجد المكان معطرا برائحة الخبز الطازج، ورأى الأرغفة مرتبة بعناية على الطاولة. نظر إليها بدهشة وإعجاب، وسألها: “هل فعلتِ هذا؟”. أجابت هاجر بابتسامة خجولة: “نعم، أردت أن أستعيد شيئا مما كنت أفعله في بلدي.”
أثنى الرجل على عملها، وقرر أن يمنحها فرصة للعمل كخبّازة في المخبزة. وهكذا بدأت هاجر فصلا جديدا في حياتها.
مع مرور الأيام، اكتسبت هاجر شهرة بين الزبائن الذين كانوا يأتون خصيصا لتذوق خبزها. كانت تعمل بحب وشغف، وتصنع أنواعًا مختلفة من المخبوزات التي تحمل عبق ثقافتها. لم تكتفِ بذلك، بل بدأت تتعلم اللغة الإسبانية لتتمكن من التواصل مع الناس بشكل أفضل.
تحولت حياتها من شقاء إلى نجاح، ومن حلم أزرق يسبح في البحر إلى واقع وردي ينبض بالأمل. تعلمت هاجر أن الإصرار والعمل الجاد يمكن أن يغيّرا مسار الحياة، وأن الحلم، مهما بدا بعيدا، يمكن أن يتحقق إذا ما تمسكنا به.
سعاد يعكوبي / المغرب
Discussion about this post