بقلم الكاتبه والأديبه … فائزة بنمسعود
قراءتي في قصيدة (عودة الراعي)التي عرّبتها
(عودة الروح)
للشاعر التونسي … حمد حاجي
Hamed Hadji
تــصــديــر
الثّنائيّة الّتي بنيت عليها القصيدة مكّنتني من الوقوف
على مجريات النّصّ وخباياه, الأمر الّذي وهبني فسحة الولوج للنص وظلاله
وتعلم أنّ موضوعات الثَنائيّات متعدّدة مثل, (الزّمان والمكان, الحياة والموت, الخلو والامتلاء, والصّمت والكلام)
في رحـــاب الـقـصـيـدة
اتكّأتِ القصيدة على
-1-ثنائيّة الحضور والغياب
تدور القصيدة حول لحظة استعادة الحبيب لشريط الماضي ، حيث يعود الرّاعي بالخراف، ويصبح هذا الحدث نقطة إشعال لمشاعر متدفّقة تتراوح بين الشّوق واللقاء والخوف والحياء تبدأ القصيدة بجملة (تعود لي الرّوح حين أراها) وهي جملة قادحة ونابضة بها يتجاوز اللقاء مجرّد الحدث البصري، ليصبح فعلًا يعيد للشاعر الحياة أو يبعثه من بين الرّفات ،والعودة ليست مجرّد حركة جسديّة، إنّها انتعاشة و استعادة للروح، ممّا يمنح العلاقة بعدًا وجوديـا عميقا ….فالرّاعي العائد لا يجلب فقط الخراف، بل يهيّج المشاعر ويوقظ الأشجان ويفتح أدراج الذّكريات الغافية
فمشاهدة الرّاعي
أعادت للشاعر شريط الماضي القريب البعيد وللذكريات سلطان تسحبنا حيث تشاء
-2-الحبّ يبدو قدرا محتوما
الشّاعر يتنقّل بين المشاعر بواقعيّة شاعريّة، فهو لا يتوقّف عند لحظة الفرح بل يستعيد ذكريات الفراق والألم، كما في:
(وأيقظتني من سبات / وأحييتني بعدما شاقني البعد / واحترق القلب بالضّيق والحزن)
والاحتراق هنا لا يمثل استعارة عابرة وإنّما يرقى لدرجة التّجربة الشّعوريّة الجسديّة، الّتي تعكس مدى العذاب الّذي يسبّبه الغياب. ..وفي المقطع الأخير، يتحوّل الألم إلى امتداد زمنيّ:(والليالي تطول على عاشق البنت والوطن )
إذن ليست المحبوبة وحدها هي المفقودة، بل هناك وطن تحصّن بالغياب في و جدان أو في واقع الشّاعر، ممّا يمنح النّصّ بُعدا وطنيّا عميقا وبمسحة حزن دفين…فنلمس
أوج الوعي السّياسيّ والـمعرفيّ بقضيتيْ الوطن والمرأة مع إدراك أنّ المرأة هي الوطن والوطن هو المرأة باعتبار أنّ كليهما يحقق الحبّ والأمان
وهنا الحبّ يراوح بين الحسّيّة والعذريّة
القصيدة تقدّم مشهدًا ريفيّا حميميّا، حيث يتداخل الجسد بالعاطفة، لكن بحدود مرسومة بالحياء و تجنح نحو العفّة …فبينما يحاول العاشق أن يمسك خصر الحبيبة، يواجهه ردّها العفويّ الّذي يقوم مقام الرّادع لأنّ الحبّ لا يمنح الحبيب تأشيرة العبور إلى قداسة الجسد
(فتقول اختش يا رجلا.. / هزَّهُ الشّوق هزّ النّسائم للغُصَنِ)
فنرى مشهدًا بصريًّا حسّاسًا يجسد العلاقة بين الرّغبة وكبحها، بين الانجذاب والحياء، ممّا يضيف إلى القصيدة بُعدا دراميّا نستطيع وصفه بالاتّزان
كما نلمس عنفوان المشهديّة والتّصوير الحيّ
حيث القصيدة عبارة عن كاميرا محترف يسلّطها على ما يراها يخدم النّسق التّصاعديّ لكمّ المشاعر باعتماد تصوير مشهديّ بارع، كما في:
(وأمسك من خصرها كمشة النّور مرتعشًا)
مع هذا التّعبير نعيش الدّهشة فـيصبح الجسد نورانيّ الذّبذبات، واللمسة غصن شمس تهتزه دفقة العاطفة…بالإضافة إلى صورة أخرى مفعمة بالحركة:(وسالت دموعي على رمل شاطئها.. / طار عقلي وفي إثره ترجرج قلبي كأنّه أجنحة السَفنِ)
هذا الـتّشبيه الأخير مذهل طازج التّوظيف ، حيث يتمّ تشبيه ترّدد القلب بحركة أجنحة السّفن، وهو تصوير غير مألوف لكنّه يحمل إيقاعًا داخليًّا يشي بعمق الاحساس
أمّا النّهاية فهي مفتوحة على الحنين الّذي لا ينضب
وهكذا تُختتم القصيدة بمشهد ملؤه التّأمّل والانكسار:(وسقتُ نعاجي لمرقدها وتمدّدتُ قرب الخراف / ألملم أحزان شبّابتي..) هذا البيت ذكرني بقصيدة من أغاني الرّعاة لــ (أبي القاسم الشابي الشاعر التونسي) وخاصّة القفلة حيث
يذكر عودة الرّاعي
(إذا طالتْ ظِلالُ الكَّلإِ
الغضِّ الضَّئيلْ
فهلمِّي نُرْجِعِ المَسْعَى
إلى الحيِّ النَّبيلْ)
وبعد ذروة اللقاء والمشاعر المتدفّقة، يعود الرّاعي إلى وحدته، وتبقى الخراف هي الرّفقة الوحيدةالصّامتة، لوحة تعكس وحدته الضّاربة في أعماقه…ونهاية تذكر بقصص الحبّ الرّيفيّة الّتي تمتزج فيها الطَبيعة بالحياة الإنسانيَة في صورة قدريّة لا فكاك منها ولا مفرّ…
من الملاحظ أنّنا عبر مقاطع القصيدة نعيش الطّابع الكلاسيكي بروح متجدّدة
فرغم حداثة بعض صورها،نستشفّ روح الشّعر العذري، حيث العاشق المحترق بحبّه، والمحبوبة المتمنّعة، والفضاء الرّيفيّ الّذي يجمع بين البساطة والعمق العاطفي … موسيقى النّصّ الدّاخليّة هي سلسة، وتساهم التّكرّرات والتّوازنات الإيقاعيّة في تعزيز جرس القصيدة ككلّ
أخــتــم
(عودة الرّاعي) ليست مجرّد قصّة حبّ، بل هي حكاية شوق واشتياق وحنين تتعالق فيها الطّبيعة بالعاطفة، والرّغبة بالحياء، والوطن بالحبيبة…إنّها قصيدة تحتفي بالحبّ كحالة إنسانيّة عميقة، فتجعل من اللقاء
بعث وعودة الرّوح إلى الجسد أمّا الفراق فهو الألم الكاسر لأجنحة القلب كلّ هذا الجمال نحتسيه في لغة شعريّة مرهفة متجدّدة واللغة أسلوب حياة وهي جزء من كينونتنا
والحضور والغياب كـأيّ ضدّين يوجد بينهما شيء ما يربطهما…
نصّ القصيدة
ا===== عودةُ الراعي =====
.
.
تعود لي الروح حين أراها
ويأخذني سحرها
كلما عاد راعي الخراف من الظعَنِ..
.
.
أيا راجعا للزريبة
هيّجتَ بلبال شوقي
وحرّكت أشجان قلبٍـــيَ بين الخمائل والفنَنِ..
.
.
وأيقظتني من سبات
وأحيَـــيْـتَني بعدما شاقني البعد
واٍحترق القلب بالضيق والحزنِ
.
.
فما كنتُ ألقاه قد زال حين تذكره..
إنما الذكريات
صحائفُ عائدة عودة الروح للبدن..
.
.
تركت لأطفالها برهةً…
يلعبون بصوف الخراف
وناوشتُ كلبي ليأنس بالدار والسكنِ
.
.
وأمعنتُ في حاجبيها أكتم حبي..
إلى أن لمحتُ الحياء
يُريق دماء الصبابة في المنظر الحسن..
.
.
وقلتُ لها حين كبّت على الوجه فولارة ..
يا معذبتي جئتُ..
قد حنّ قلبي للقياك والجِسمُ فِيكَ فَنِي
.
.
وأمسك من خصرها كمشة النور مرتعشا..
فتقول اختش يا رجلا..
هزَّهُ الشوق هز النسائم للغُصَنٍ
Discussion about this post