قراءة في ديوان “قوس الكمان” للشاعرة لطيفة تقني
نقف أمام الديوان الرابع “قوس الكمان” الذي حَبَكَتْهُ الشاعرة لطيفة تقني بحبكة لغوية وبنائيةٍ تعكس معاني الجمال الفني والوجداني، مستعينة ببيان اللغة وجزالة الألفاظ، وبلوغ الأثر النفسي في المتلقين. قد جمعت الشاعرة بين غنائية الكلمة ورهافة الشعور، مثلما يجمع القوس بين شدته في العزف ورقته في الأوتار.
الديوان يتفرد بنسيجه النصي، إذْ استمدت الشاعرة رؤاها من التراث الشعري العربي القديم، فَشُكِّلَتْ القصائد في قوالب عمودية تقليدية ذات أوزان موزونة وقوافي مَوْسِيقِيَّةٍ، ما يُبْدِي تعلقها بالجذور الأدبية الأصيلة، ويُبْرِزُ شغفها بإحياء الشعر العربي الذي يتسم بالمتانة اللغوية والرمزيات العميقة.
في استكناه معاني الديوان، نجد أنّ الشاعرة استخدمت أسلوبا رمزيا لتغليف معانيها الحياتية والنفسية، مستعينة بالاستعارات البلاغية والتشابيه التي تتغلغل في ثنايا النصوص الشعرية، لتُضْفِي بُعدا استبطانيا يعكس تجربة الشاعرة الشخصية والجماعية. فمثلا، نجد في وصفها لمشهد الغربة تستعمل الكلمات الموحية التي تحمل في طياتها معانٍ متعددة، مثل قولها:
“تَسَابَقَتْ نُفُوسِي إِلَى جَنَاحِ اللَّيْلِ
وَمَخْبَرِ السَّمَاءِ بِمَجْدَافِ الرُّوحِ”
هنا نلحظ أن الشاعرة تسْتَبْطِنُ معاني السَّفَرِ النَّفْسِي والغُرْبَة الباطنية، من خلال استعارة “جَنَاحِ اللَّيْلِ” و”مَجْدَافِ الرُّوحِ”، ما يُضْفِي على النصوص طابعا عميقا، يستحثّ المتلقي على التفكير في تجارب الغربة النفسية التي تتعدى الحدود الجغرافية.
ومن الواضح أن الشاعرة تستقي من بئر الحكمة الإنسانية، حيث تتناول في ديوانها موضوعات وجودية مثل الحياة والموت، الأمل واليأس، الغربة والانتماء. وتبدو هذه الموضوعات متشابكة في قصائدها التي تعكس صراع الإنسان مع ذاته ومحيطه، ومحاولاته المستمرة للوصول إلى حالة من الاتزان الروحي والنفسي.
وفي تناولها للأغراض الشعرية، نجد أن الشاعرة لم تحِدْ عن التقاليد الشعرية التي عَرَفَها العرب منذ القدم، حيث تتراوح قصائدها بين المدح والرثاء، والغزل والوصف. لكن ما يميزها هو قدرتها على منح هذه الأغراض التقليدية نَفَسا معاصرا، من خلال اللغة والرمز والتصوير الفني.
إنّ الألفاظ المستخدمة في الديوان تَنْبُضُ بالقوة، إذْ اختارت الشاعرة ألفاظا جزلة ومفردات عميقة، كما كان يصنع أهل العلم بلغات العرب، فتجدها تُلَوِّنُ معانيها بتنوع الألفاظ ودقتها، دون اللجوء إلى البساطة أو السطحية. فعلى سبيل المثال، تقول في إحدى قصائدها:
“إِذَا مَا تَسَاقَطَتْ وَرَقَاتُ النَّخْلِ
فَسَأَبْقَى حَتَّى تَعُودَ صفْحَاتُ الْحَيَاةِ”
هنا يظهر التجسيد اللغوي في “تَسَاقَطَتْ وَرَقَاتُ النَّخْلِ” إذ ترمز إلى الفقد والانتهاء، في حين تعود في النهاية إلى الأمل بـ”تَعُودَ صِفْحَاتُ الْحَيَاةِ”، مما يعكس فلسفة الشاعرة في مواجهة التحديات والمآسي.
الصور الفنية في الديوان تشهد على مهارة الشاعرة في استخدام الأدوات البلاغية لتقديم نصوص شعرية تلامس عمق النفس البشرية. فعلى غرار كبار الشعراء العرب، استعملت الشاعرة الصورة التشبيهية والاستعارات بكثافة، مما يضفي على قصائدها بعدا رمزيا. إذ نجدها في أحد النصوص تشبه مشاعرها بالكمان الذي يعزف الألحان الحزينة:
“فِي قَوْسِ الْكَمَانِ رَسَمْتُ أَلْوَانَ أَحْزَانِي
وَنَقَشْتُ عَلَيْهِ مَلَامِحَ وَجْدَانِي”
في هذا البيت الشعري، تستخدم الشاعرة الكمان كرمز للوجدان، وقوسه لتمثيل الحزن الذي ينساب من قلبها إلى الخارج، مما يجعل من النصوص مرآة لمشاعرها وتجاربها الشخصية.
الديوان يتحدث بلغة وجدانية بليغة عن قضايا عدة تمس جوهر الإنسان ووجوده. فنجد الشاعرة تتطرق إلى موضوعات الغربة، وتتجلى هذه الثيمة في كثير من النصوص وكأنها صدى لحياة الشاعرة وتجربتها الشخصية. الغربة ليست فقط غربة مكانية، بل تمتد لتشمل الغربة النفسية والوجدانية، مما يعكس مدى شعورها العميق بالاغتراب عن المجتمع والذات أحيانا.
كما نجد أن الشاعرة تتناول موضوعات الوجود والفناء، بأسلوب فلسفي عميق يطرح تساؤلات حول معنى الحياة والموت. وهذا يظهر في نصوصها التي غالبا ما تُشْعِرُ المتلقي بأن الحياة رحلة مليئة بالمتناقضات، وأنّ الموت جزء لا يتجزأ من هذه الرحلة.
أما من حيث الشكل، فقد حافظت الشاعرة على نظام القصيدة العمودية، متبعة الأوزان التقليدية التي تتسم بالجمال الموسيقي. يُلاحظ أنّ الشاعرة تولي اهتماما كبيرا لقافية القصيدة، مما يمنح النصوص انسيابية موسيقية تتماشى مع مضامينها الوجدانية. فالوزن والقافية هنا ليسا مجرد أدوات شكلية، بل هما جزء من روح النص الذي يعبر عن الأحاسيس والمشاعر المتدفقة.
تناولت الشاعرة أغراضا شعرية متعددة، لكنّها أبدعت في التعبير عن الغزل والرثاء والوصف بأسلوب يجمع بين العمق والبساطة. فالغزل في نصوصها ليس غزلا مباشرا، بل هو غزل يتسلل بين السطور، يحمل أبعادا رمزية تعكس تقديرها لجمال الروح قبل الجسد.
أما الرثاء، فقد تجلى في نصوص تتحدث عن الفقدان بأسلوب يمزج بين الحزن والأمل، حيث تجدها تصف الموت وكأنه رحلة نحو عالم آخر، وليس مجرد نهاية لحياة.
الرمزية في ديوان “قوس الكمان” تُعَدّ من أبرز السمات الأسلوبية التي توظفها الشاعرة لطيفة تقني لتمرير رسائلها العميقة والمشاعر المتداخلة. فالرمز في نصوصها ليس غامضا بشكلٍ يَصْعُبُ إدراكه، بل هو وسيلة تعبيرية تفتح آفاق التأويل أمام القارئ. الكمان، كعنوان للديوان، هو بحد ذاته رمز للتناغم بين الحزن والفرح، الألم والأمل، مثلما تُصَدِرُ الأوتار أنغاما متباينة تُعَبِّر عن كل ما يَخْتَلِجُ في النفس البشرية.
وفي العديد من النصوص، تستخدم الشاعرة عناصر الطبيعة كرموز تحمل دلالات أوسع. فالنخيل، مثلا، يرمز إلى الشموخ والصبر، بينما البحر يَسْتَحْمِلُ دلالة اللانهائية والتغير المستمر. ومن هذه الصور، تبرز قدرة الشاعرة على تحويل المشاهد اليومية البسيطة إلى لوحات شعرية غنية بالرموز.
الصور الفنية التي تُزَيِّنُ نصوص الديوان تُوَضِّحُ تمكّن الشاعرة من أدواتها البلاغية، حيث تعتمد على التصوير الشعري الذي يجعل من كل قصيدة مشهداً بصرياً يمتلئ بالألوان والتفاصيل. تستعمل الشاعرة الاستعارة بكثافة، لتُضْفِي على النصوص بعداً دلالياً يعكس أحاسيسها العميقة. ففي أحد النصوص، تصف الشاعرة الليل وكأنه شال أسود يغطي الأفق، مما يخلق صورة بصرية تخدم الغرض الشعري، وتنقل المتلقي إلى أجواء النص.
المعجم الذي تنتقي منه الشاعرة ألفاظها يعكس تَذَوُّقَها اللغوي العريق، وهو معجم يتراوح بين المفردات التراثية التي تذكرنا بفصاحة العرب القدامى، وبين مفردات حديثة تحمل في طياتها طابع التجديد والحداثة. هذا المزج بين القديم والحديث يخلق نصوصاً غنية ببلاغتها، دون أن تفقد جاذبيتها لدى القارئ المعاصر.
ففي وصفها لحالة الحزن، تستخدم الشاعرة مفردات مثل “الشجى”، و”الكمد”، و”الوغى”، وهي مفردات تعود بجذورها إلى القاموس العربي القديم، لكنها تظل قادرة على إيصال المشاعر الحديثة التي تحاول الشاعرة التعبير عنها.
بهذا النهج، يتضح لنا أن ديوان “قوس الكمان” للشاعرة لطيفة تقني هو عمل شعري يزاوج بين الأصالة والمعاصرة، ويُقدِّمُ رؤية شعرية عميقة تُثري المشهد الأدبي العربي الحديث.
الأسلوب الذي تتبعه الشاعرة لطيفة تقني في ديوان “قوس الكمان” يتسم بالانسيابية والتنوع، إذ يراوح بين الأسلوب الخطابي الوجداني الذي يخاطب فيه النص القارئ مباشرة، وبين الأسلوب التأملي الذي يتيح مساحة للتفكير العميق. وتُظهر الشاعرة براعة في توظيف التكرار والجناس والطباق، ما يضفي على النصوص إيقاعا موسيقيا يتناغم مع المشاعر التي تُعَبِّر عنها.
ويَتَمَيَّزُ أسلوب الشاعرة بوضوحه، فهو بعيد عن التعقيد المفرط، ما يجعل النصوص قابلة للفهم من قِبَلِ شريحة واسعة من القراء، دون أن يُنْقِصَ ذلك من عمقها أو يُفْقِدَها أثرها الجمالي.
تُلاحَظُ الوحدة العضوية في قصائد الديوان، حيث تسود النصوص حالة من التماسك بين المضمون والشكل. فكل قصيدة من قصائد الديوان تُعتبر وحدة متكاملة تنساب فيها الأفكار والصور الشعرية بشكل منطقي وسلس. كما أن التكرار الذي تلجأ إليه الشاعرة يُسهم في تعزيز هذه الوحدة، حيث يعمل على ربط أجزاء النصوص ببعضها البعض، مما يزيد من تماسكها وقوتها الفنية.
يُعَدُّ التكرار من الأدوات الأسلوبية البارزة في ديوان “قوس الكمان”. توظف الشاعرة التكرار بشكل مدروس لتعميق الأثر النفسي والوجداني للقصيدة. فالتكرار ليس مجرد إعادة للمعاني، بل هو وسيلة لإبراز فكرة معينة أو لتأكيد إحساس ما.
مثال على ذلك، استخدام الشاعرة للفظة “الكمان” في أكثر من موقع داخل الديوان، بحيث يصبح هذا اللفظ رمزاً يتكرر ليشير إلى الموسيقى الداخلية التي تُرافق الشاعرة وتُعَبِّرُ من خلالها عن حالاتها النفسية المختلفة.
يختتم ديوان “قوس الكمان” بنصوص تحمل طابعا تأمليا عميقا، ما يترك القارئ في حالة من التفكير والاندماج مع النصوص. الخاتمة ليست نهاية حتمية، بل هي بداية لرحلة تأملية تأخذ القارئ إلى عوالم أخرى من الفهم والتفكر، وهذا ما يجعل الديوان عملا أدبيا متكاملا يترك أثرا باقيا في ذاكرة المتلقي.
بهذا نستخلص ان ديوان “قوس الكمان” للشاعرة لطيفة تقني هو اسهام متميز في الادب العربي الحديث حيث ينجح في الجمع بين التراث والمعاصرة ويُعَبِّرُ عن تجارب انسانية بليغة من خلال لغة شعرية راقية تجمع بين الجمال اللفظي والعمق الفكري فالشاعرة استطاعت عبر نصوصها ان تربط بين الماضي والحاضر وان تُكَرِّسَ للتواصل بين الأجيال من خلال احياء القوالب التقليدية للشعر العربي وملء جنباتها بمضامين معاصرة تُعالجُ قضايا وجودية واجتماعية باسلوب حديث يُعَبِّرُ عن تحولات النفس البشرية امام تحديات الحياة المعاصرة.
وفي هذا السياق نجد ان الشاعرة لم تكتفِ بتوظيف البنى الكلاسيكية للقصيدة العربية بل اعادت صياغتها بما يتناسب مع روح العصر مع المحافظة على اصالة الموروث الشعري مما يُؤَكِّدُ قدرتها على التوفيق بين التقليد والتجديد وبين الاصالة والابتكار ولعل هذا ما يمنح الديوان بعداً فريداً يجعله جزءاً من المشروع الحداثي الذي يسعى الى تحديث النص الشعري العربي دون ان يفقد هويته.
ان ديوان “قوس الكمان” ليس مجرد مجموعة من القصائد بل هو تجربة شعرية متكاملة تعكس رؤية الشاعرة للعالم ولذاتها وللوجود وهو مرآة تعكس تأملات عميقة في الحياة والموت والحب والوجع والفقد وهذا ما يجعل النصوص نابضة بالحياة وبالمشاعر الانسانية الصادقة حيث تنجح الشاعرة في استدراج القارئ الى عوالمها الداخلية وتجعله شريكا في رحلة الاكتشاف الذاتي.
ويُمكننا القول ان الشاعرة لطيفة تقني قد استطاعت من خلال هذا الديوان ان تُضيفَ صوتها المميز الى الاصوات الشعرية النسائية المعاصرة وان تُساهمَ في اثراء المشهد الادبي العربي بعمل فني يُحْتَفى به ويُدرَسُ كجزء من التجربة الشعرية الحديثة التي تسعى الى تقديم الشعر بوصفه فنا قادرا على محاكاة الروح البشرية والتعبير عن مكنوناتها بأسلوب يتسم بالصدق والابداع.
————
المرجع
ديوان ” قوس الكمان ” للشاعرة المغربية لطيفة تقني
Latifa Tekni
Discussion about this post