قراءة تحليلية بقلم أ. سامية خليفة / لبنان لقصيدة سرديّة بعنوان:وحيداً على حافّةِ الليلِ للشاعرة تغريد بو مرعي.
تستهل الشّاعرة القصيدة بعنوان لافت:“وحيدًا على حافّة الليل” تبدأ فيه بكلمة “وحيدًا” تعبر من خلالها عن حالة ما تعتري شخصًا مجهولًا ، وهي بذلك تشدّ القارئ لاكتشاف من الّذي تخصّه الشّاعرة بتلك الحالة ثم تحدّد المكان بكلمة حافة والزّمان بكلمة الليل، وهكذا تستمرّ الشّاعرة بجذب القارئ أكثر فأكثر حين تنكر معرفتها السّابقة به، بدون أيّ تلميح إلى شخصه في قولها “لمْ يسبقْ أن رأيتُهُ”، مما يزيد من فضوليّة القارئ فيبحر في القراءة ليستعلم عمّن تتوجّه بكلامها ، وبذلك يكون الإطار العام للنص في خلق حالة من التّرقَب من تراه سيكون ذلك الشّخص المجهول؟وكيف سيتمّ التّفاعل معه؟
تستكمل الشّاعرة التّحدّث حول الشّخصيّة الغامضة قائلة:
“يُقلّمُ أفكارَهُ مِن حُزنٍ وَألمٍ.”
حيث استعارت الشّاعرة للتعبير عن معاناة ذلك الشّخص المجهول بأنّه يقوم بتقليم أفكاره والتّقليم عموما يكون إما للأظافر ،وإما لأغصان الأشجار، أمّا استخدامها للأفكار ، ففيها استعارة لتعبّر عن تطهيره للأفكار من كلّ ما يعكّر صفوها من أحزان.
“ألوقتُ مثل الحياةِ،كلاهُما يقودانِكَ إلى نقطةٍ في باطنِ الكفِّ،”
وهنا استخدمت أسلوبا فيه حكمة.
وبشكل مفاجئ تنتقل إلى العوامل الدّاخليّة في نقل صورة وجدانيّة داخليّة عندما تشبّه الوقت بالحياة وتستطرد في
اعتبار أن لهما الأثر الكبير على المرء وكلاهما سيتركان بصمة في باطن الكفّ والكلّ يعلم أن باطن الكفّ يعبّر عن العمل والشّقاء والعطاء وما يجنيه المرء من عمل صالح أو طالح.
“يتعانقانِ معاً خوفاً مِن جلسَةٍ مُضجرَةٍ.”
في هذه الصّورة المجازيّة أنسنتْ الشّاعرة الحياة والوقت، وجعلتهما في عناق، إنّما لتعبّر عن انصهار الوقت مع الحياة لقتل الشّعور بالملل.
“كانتِ الأرضُ تودّ لوْ تبتلعُ حزنَهُ،لكنّهُ صودِفَ أنّ اليومَ عطلةٌ،والبحرُ في إجازةٍ طويلةٍ.”
التّأثيرات الخارجيّة تستند بها على عناصر الطَبيعة وهنا أيضا أنسنة للأرض تجسّد ذلك في كلمة تود ، وتلجأ الشّاعرة إلى أسلوب السّخرية لتبرّر عدم استطاعة الأرض ابتلاع حزنه بسبب أنّه يوم عطلة والبحر في إجازة طويلة. أيضا هنا استعارة فالإجازة سمة مخصصة للإنسان.
“كانَ عليّ أن أنتظرَ وسطَ الكواكبِ،لعلّ برجَ الحظّ يبتسمُ دونَ أن تُلاحقَنا كاميراتُ المُراقبينَ.”
أيضا هنا التّأثيرات الخارجيّة بذكر الكواكب /كاميرات المراقبين.
تلجأ الشّاعرة إلى عرض لظاهرة التّنجيم وتأثيره على العقول الّتي تأمل وتعتقد بالغيب للخلاص من الألم والضّياع، وتعتقد أيضا بالحسد من خلال ملاحقة الحاسدين لكل
من يبتسم له الحظ.
“لمْ يسبقْ أن رأيْتُهُ،قبلَ أن تنهارَ المِثالِيّاتُ…”
وكأن الشّاعرة هنا تريد أن تهب القارئ قبسا من أمل في معرفة هويّة ذلك الشّخص الغامض، فهو لم يظهر لتلك الشّخصيّة الّتي ابتدعتها وتحكي بلسانها إلّا بعد انهيار القيم فمن تراه يكون؟
“كان قدِ اختلقَ عذراً مزدوِجاً،وأدارَ ظلّهُ للعبورِ،وانحنى قليلاً لِيدلفَ إلى صورةٍ ترتاحُ على جدارٍ.”
هنا يتجلّى التّصوير بسورياليّة عالية فهل يكون من تراه عبارة عن طيف أو شبح أو ربّما روح شهيد تهيم أو ربّما متشرّد شبه ميت بلا مأوى خارج إطار الصّورة المعلّقة على الجدار ،التأويلات كثيرة وكلّ سيحلّل بما يرتئي له خياله.
“كانتِ الأماكِنُ نائِمَةً على طرفَيِ الذّهابِ والإيابِ،وحدها انحناءَتُهُ،لِقلّةِ حيلتِها،مرّتْ بِجانبي كئيبَةً صامِتةً.”
النّوم هو للكائنات الحية وليس للأماكن هنا استعارة ، الانحناءة ومرورها بقربها كئيبة صامتة فهذا التّعبير إمّا انعكاس لمشاعر صوت الشّاعرة الّذي تحكي باسمه تجاه هذا الطّيف، وإمّا تعبيرا عن المحيط الكئيب بشكل عام.
“تظاهرْتُ أنّي أحَدّقُ في السّماءِ،رغبةً في أن يُطلِقَ الزّنادَ على حبلِ صمتِهِ فَيُصرَعُ وننجو معاً.”
وهنا تأكيد على أن ذلك الطىيف هو الوجه الآخر لصوت ابتدعته الشّاعرة يحكي عن هواجسه فلماذا سينجوان معا إن لم يكن يمثل الهو التّائه والّذي يحاول صوت الأنا استفزازه كي يصرخ ويعبّر عما في داخله أي بما في داخل صوت الشّاعرة بشخصيّة ابتدعتها وتمثلت بها فيصرع الهو أي تقضي على مكبوتاته ليعود الصّوت فيعود التَوازن ما بين الهُوَ والأنا.
“تلكَ الليلةُ،انتابني بكاءٌ وعويلٌ.
تلكَ الليلةُ،
هجرَ سطح صورتِهِ بعيداً عن صراخِ آلامِهِ ووحدتِهِ.”
هنا التّنفيس يأتي ما بعد الخلاص من مكبوتات الهُوَ والتّحرّر منها ليكون البكاء تعبيرا عن الرّاحة النّفسيّة المتأتية ما بعد الإفصاح عما يعتلج النفس من آلام ومشاعر مدفونة ليهجر هذا الهو من خلال هذا الطيف أو الكائن الغامض سطح صورته.
“تلكَ الليلةُ
حصلتُ على سببٍ كيْ أعشقَ الصّورَ التي يطرحُها الليلُ لِلمُشرّدينَ.”
من هم المشردون الذين يطرح لهم الليل الصور؟
هم حتما كل شخص يشعر بضياع ما ناجم إما عن عطش إلى المعرفة أو نقص بالعاطفة إما لشعور بالوحدة القاتلة فيهيم المرء على وجهه باحثا عما يخفف عنه وحدته وإما عن تشرد حقيقي ما أكثر المشردين على الأرض
“وَفي أحدِ الأماكنِ الخلفيّةِ رأيتٌهُ معاً،
نصفهُ عالقٌ هناكَ،ونصفهُ الآخرُ مُصِرٌّ على البقاءِ معاً.”
وهنا أيضا صورة سوريالية غرائبية رائعة تختتم بها الشاعرة نصها الذي تسيطر فيه الإيقاعات الداخلية على الإيقاعات الخارجية فالنص لم يعتمد على الموسيقى الخارجية للمفردات بقدر ما كان التركيز فيه على الموسيقى الداخلية التي رافقت النص منذ بدايته حتى نهايته،ومع ذلك فالشاعرة احسنت اختيار مفردات تتجانس اصواتها ولا تتنافر ، أما بالنسبة إلى هيكلية النص فالنص نثري ،غني بمجازاته وانزياحاته ، عميق الدلالات يعالج حالة وجدانية بكل أبعادها ، ابتعد النص عن الحشو فكل عبارة فيه لها أبعادها ورمزيتها والنص لم تتعدد فيه الأصوات حيث لم يتجاوز صوت الطيف رغم أنه كان صامتا لكنه كان أساسيا في النص وصوت آخر وهو ما ابتدعته الشاعرة لتحكي بلسانه.
النص:
وحيداً على حافّةِ الليلِ
لمْ يسبقْ أن رأيتُهُ، وحيداً يجلسُ على حافّةِ الليلِ،يُقلّمُ افكارَهُ مِن حُزنٍ وَألمٍ.
ألوقتُ مثل الحياةِ،كلاهُما يقودانِكَ إلى نقطةٍ في باطنِ الكفِّ،
يتعانقانِ معاً خوفاً مِن جلسَةٍ مُضجرَةٍ.
كانتِ الأرضُ تودّ لوْ تبتلعُ حزنَهُ،لكنّهُ صودِفَ أنّ اليومَ عطلةٌ،والبحرُ في إجازةٍ طويلةٍ.كانَ عليّ أن أنتظرَ وسطَ الكواكبِ،لعلّ برجَ الحظّ يبتسمُ دونَ أن تُلاحقَنا كاميراتُ المُراقبينَ.
لمْ يسبقْ أن رأيْتُهُ،قبلَ أن تنهارَ المِثالِيّاتُ…
كان قدِ اختلقَ عذراً مزدوِجاً،وأدارَ ظلّهُ للعبورِ،وانحنى قليلاً لِيدلفَ إلى صورةٍ ترتاحُ على جدارٍ.كانتِ الأماكِنُ نائِمَةً على طرفَيِ الذّهابِ والإيابِ،وحدها انحناءَتُهُ،لِقلّةِ حيلتِها،مرّتْ بِجانبي كئيبَةً صامِتةً.
تظاهرْتُ أنّي أحَدّقُ في السّماءِ،رغبةً في أن يُطلِقَ الزّنادَ على حبلِ صمتِهِ فَيُصرَعُ وننجو معاً.
تلكَ الليلةُ،انتابني بكاءٌ وعويلٌ.
تلكَ الليلةُ،، هجرَ سطحُ صورتِهِ بعيداً عن صراخِ آلامِهِ ووحدتِهِ.
تلكَ الليلةُ، حصلتُ على سببٍ كيْ أعشقَ الصّورَ التي يطرحُها الليلُ لِلمُشرّدينَ.
وَفي أحدِ الأماكنِ الخلفيّةِ رأيتٌهُ معاً، نصفهُ عالقٌ هناكَ،ونصفهُ الآخرُ مُصِرٌّ على البقاءِ معاً.
بقلم الشاعرة تغريد بو مرعي
لبنان/البرازيل
Discussion about this post