وتعود الأيام الخوالي متحدّية وجودنا مرّة جديدة، كأنّ الزّمن الّذي كنّا نعيشه معها، بات يخطّ صورها الهاجسة من سكون الصّمت، وكأنّ أحلامنا فيها، كانت قد ازدانت من ألم الذّكريات المهاجرة، لتكتب بيننا مودّتها الّتي ما بارحت ليالينا. وهي لم تأتِنا بغتة لتحاكينا بوجدانها الخافت، بل كنّا فيها النّغمة الّتي تهاجر من ضيم البكاء، وتهجّدات الأفكار الّتي عصفت فيها حروف النّدم. كان عليها أن تعود إلينا ذكرياتنا الصّاخبة مرّة جديدة، فصاغت بيانها،.. ونحن فيها عتبى من شتاتنا وأحلامنا. هي لا تدري بحالنا، ولا تعرف أنيننا الّذي تفتّق في غمرة اليأس والهيام.. عن أنشودة وإذا بالقادم في زماننا، يبحث عمّن كان معه يوماً،
نرتع ونصلّي ونحاكي مكنوناتنا بصمت. وذكرياتنا ليست دفاتراً مخفيّة ولا كتابات مقروءة أو مركونة في زاوية من زوايا البيوت السّاكنة. بل هي الصّمت الباقي من أنين الكآبة الّتي طافت في أرجاء دنيانا الهجينة من سكنات الأيام الخاملة، الّتي تخبر عمّا اكتنزت به نفوسنا الهائمة والّضائعة في مجاهل الأزمنة، تبحث عن حضورها..
وكنت حينها أقلّب
ذاكرتي بين الفينة والأخرى، علّني أعود إلى ذاتي.. بعد طول غياب ، وأكاتب سكنات الفؤاد، إذ ربّما تلك السّكنات تدرك، أنّي أتوق إلى سبر أحلامها. كمن يأتي من البعيد بحثاً عن مكنونات خافتة كانت لديه،.. فكلّ ما كان بيننا ، أصبح الحلم الخافت الّذي يتلاشى مع الزّمان، كأنّه ما كان يوماً.. فتتوالى بيننا الأسئلة متسابقة لذهني،..
ترى ما سبب ذلك؟، هل لأنّي هجرت السّىكنات؟ أم الهدوء في العيون الوالهة كان قد هرب ليختفي في ظلّ الوجود، فتأتيه أصواتٌ متملّقة أثير الصّدى وسكون الليل العابق؟.
ما بين الأمس واليوم، كانت الحكايات المتوالية ، الّتي كنّا نرتع فيها ونصبو إليها،.. فتعصف بنا ذكرياتنا الهاجسة، الّتي كنّا نرتّق فيها أعذارنا، ونتعاهد كل يوم وهنيهة… فالحياة قاسية وتحتاج لمن يواجهها تارةً بالحيلة وطورًا بالمواجهة ، إلّا أنّنا كنّا أولئك الّذين تهادوا معًا واجتمع لديهم قنوت الهادئين..
مرّة جديدة أعود إلى ذاتي بحثاً عن بقايا الآمال المكنوزة، لعلّني أدرك من أكون في زمن التّملق والغفلة والهذيان، كأنّ الكون كلّه معك في محاكاته الصّامتة قد انتفض وتمرّد بعد سكون ،وفجأة ادرك أنّه ذاك المجهول في غفلة الحاضرين.
أحياناً كثيرة، كنّا بحاجة إلى الركون لأنفسنا والعودة بها إلى أصالتها ومراتبها، من أجل سموٍّ ننشده، علّنا ندرك مدى القرب إلى الذّات الهادئة، و نستكين إلى مبتغى مناجاتنا الصّادقة، و نرتقي إلى إبقائها للأزمنة المتعاقبة، ربّما عندئذِ تنعشنا نسائم الآمال. وتتوالى الأيام مسرعة، فتعود بنا إلى سالف العصور، تسير بنا بخطى متراكضة إلى البعيد، ونحن نمشي خلفها في طريق الذّكريات.
بقلم الشاعر أ.د. حسين علي الحاج حسن
Discussion about this post