عند حافّة النّهر توقّفت قدماى فلم يلفت إنتباهى سوى هذا الفتى الصّغير الجالس خلف تلك الشّجرة العتيقة لم يؤنثه غير أغصان تلك الأشجار المتأرجحة فوق حافّة مياه النهر ؛ ماهذا الصّمت الغريب الّذي يخيّم عليه وهو يتأمّل بعينيه المتصلبتين وكأنّه يتأمّل شيئًا داخل تلك المياه فيبدو أنّه يداعبها بتلك الحصوات الّتى يقذف بها من حين لأخر ولكنّه يقذفها بعنف داخل المياه وكأنّ تلك الأمواج الصّغيرة المتلاحقة تعيده إلى عدّة أعوام مضت؛ تدغدغ بداخله تلك البراعم الصّغيرة الّتى تريد أن تنبت ثمّ يعود فيستنفذ كلّ طاقته المكبوتة بداخله فى قذف عدد من تلك الحصوات المتتالية؛ وغصون تلك الشّجرة العتيقة المتدلّية كخيوط الشّمس المتناثرة تتلاعب بوجهه وكأنّها تداعبه فيزيلها وهو يسند جسده النّحيل على جذعها ثمّ بدأ يقلب تلك الورقة المطويّة بإحدى يديه وباليد ألأخرى قلم رصاص؛ كنت أظنّ أنّه سوف يبدأ بكتابة بعض السّطور من أشعار أو خواطر فحينئذ وقفت مكانى بلا حراك أنتظر حتّى لا ألفت إنتباهه فتنقطع تلك الأفكار الّتى إستحضرها بعد هذا التّفكير العميق؛ ولكنّه عاد يطبق بتلك الورقة مرة أخرى بين كفّيه ثمّ عاد وكأنّه لايزال يستحضر بعض الجمل الّتى سيكتبها ولكن يبدو أنّه قد إستعصى عليه إستحضارها .
لقد بدأ يتأمّل مرّة أخرى مياه النّهر ولكن بغضب وعصبيّة شديدة إنّه حتّى لم يشعر بوجودي وأنا بالقرب منه. لم يكن لى أن أقتحم عليه خلوته سوى لتخفيف حدّة التّوتّر والقلق الّذى يكاد أن يقتله؛ إنّنى أشعر بهذا؛ إنّه لا يزال برعما صغيرا يريد أن ينبت ولكن هذه الإنفعالات وتلك النّظرة الصّاخبة الّتى أراها فى عينيه يبدو أنّها تخفي بداخلها أشياءً تفوق قدرته الّتى لم تكتمل بعد ربما ساقتها إليه يوما سحابة قاتمة لم يثقبها شعاع الشّمس أو ربّما تكون قد تناثرت بعض السّخافات من لامبالاة أحدهم لعدم الشّعور بمعاناة ألآخرين فأحدثت بداخله جرحا عميقا لا يقوى على مداواته. إنّ نظراته لا زالت تتردّد ما بين تلك الورقة ومياه النّهر؛ ولا زلت أنا مكاني بلا حراك أنتظر ما يدلو به دلو الصّغير؛ ولكن يبدو أنّه لا زال يتعثّر ببعض الكلمات الّتى يريد أن يدوّنها وبدأت أتعجّب ?ماذا يريد أن يكتب؟ إنّ الفضول يستهويني لمعرفه ما بداخل هذه الورقة فتقدّمت نحوه بخطوات هادئة ولكنّني أردت أن ألفت إنتباهه أنّ أحدا قادم فلا أخيفه فى تلك الوحدة الّتى يسكنها قائلا.
– السّلام عليك يا صديقي .
فنظر إليّ نظرة وكأنّه يعاتبني ،قد قطعت عليه خلوته ولكنّنى أحسست ببراءة وبشيء من الحزن ينثقب من عينيه وهو يقول.عليكم السلام .ثم عاد بنظراته مرّة أخرى؛ فجلست بجواره وعندئذ أحسست أنّه يحاول طيّ الورقة بين يديه ، لا يريدنى أن أتطلع على ما بداخلها وما يريد أن يدوّن فيها فنظرت إليه بابتسامة مداعبا إياه قائلا.
– ماذا تكتب فى هذه الورقة ؟
– ودون أن ينظر لي أجاب بصوت خافت مليء بالشّجن والحزن. لأشيء.
– فقلت هل أنت شاعر ؟
– فأجاب قاطعا لا.
– إذا فأنت كاتب فلا يختار مثل تلك الأماكن سوى المبدعين .
– فأجاب وقد إنتابته نبرة من الحدّة والحشرجة فى صوته وكأنّه يحمل بين طياتّه هموم البشر. لست أعرف مَن هؤلاء الّذين تتحدث عنهم .
. وحينئذ نظرت إليه وأنا أمسح على رأسه أحنو عليه بعد أن شعرت بما يحمل بداخله من هموم وليست فلسفة إبداع وأحسست أيضا أنّه قد حمّلني بعضا من تلك الهموم .
ماذا تحمل بداخلك أيّها الصّغير لقد أدميت قلبي بتلك النّظرة الحزينة . في هذه الدّقائق القليلة اقتربت منه وأحسست أنّ هناك أسرارًا كثيرة مخبّأة داخل قلوب البشر لا يشعر بها سوى من يحملها بداخله.
فيا ليتنى أستطيع أن أغوص بأعماق هذا الصّغير لأفرغ ما بداخله من ألم يتجاوز حدود قدرته ولكنّنى أردت مداعبته لإسكات هذا التّوتر والحيرة قائلا.
– هل أستطيع أن أساعدك فيما تريد أن تكتبه بهذه الورقة ؟
– فأجاب نافيا لا .
– قلت لماذا .
– قال لأن الجميع رفض مساعدتي .
– قلت لكنّنى أعدك أن أساعدك؛ فقط أخبرني ماذا تريد أن تكتب .
– فنظر إليّ وهو يعطيني تلك الورقة نظرة أحسست فيها بالتّوسل والرجاء ففتحتها فلم أجد بها سوى بعض الأرقام المتناثرة هنا وهناك لم أفهم منها شيئا فسألته.
– ماذا تعني هذه الأرقام ؟
– قال فى تنهيدة يملأها الأسى . هذه هى الدّيون المتراكمة على أمّي كنت أفكّر كيف أجمعها…(تمت)
بقلم. عبدالنبى عياد
Discussion about this post