قضت المسكينة زهرة أيامها في خدمة زوجها ورعاية أبنائها، لا تكلّ ولا تملّ، إضافةً إلى ذلك؛ فقد كانت تواظب على محو أمّيتها بإحدى الجمعيات القريبة من بيتها، حفظت ما تيسّر من السّور القصيرة لتقضي بها صلواتها، وكلّما أنهت فرضها جلست تدعو لزوجها العربيد بالهداية!
مرّت الأعوام تباعاً – وكبر الأولاد – تغيّر كل شيء من حول السّيدة إيمان إلاّ زوجها، الّذي ظّل يصول ويجول إلى أن حط الرّحال مؤخراً في مدينةٍ بعيدةٍ لظروف العمل، حيث عيّن رئيس قسم لإحدى المصالح الإدارية.
كانت تعمل تحت إمرته فتاة تجاوزت عقدها الثّاني بقليل، وكانت على قدر متوسط من الجمال، حديثة العهد بالعمل، خفيفة الظّل، تتقن فن الدّلال؛ كل هذه الحركات المغرية جعلت عينيّ رئيسها محمود تزيغ عن الملفات المتراكمة أمامه، لتتسلط شيئا فشيئا على جسد مرؤوسته زبيدة المكتنز! وهي تختال في مشيتها أمامه، تناوله المراسلات بابتسامة ونظرة جذابتين..
لم يجد محمود أدنى عناء لمعاكستها، فقد كان متمرساً يعرف من أين تؤكل الكتف! كيف وهو من أمضى معظم أيام حياته متنقلا بين الحانات، مستأنساً بما افتتن به من بنات اللّيل المغريات..
ذات يومٍ استغلّ فرصة عيد ميلادها، فعزمها لتقضي معه سويعات بإحدى المحلات الّتي يرتادها الكثير من العشّاق، لإبرام صفقات الزّواج، لم تمانع! فقد كانت نفسها تتوق لتجربة مثل هذه الجلسات الرّومانسية لأول مرّةٍ، بعد أن كانت تسمع بها فقط من إحدى صديقاتها، أو تشاهدها على الشّاشة..
لم تكن علامات الكبر تظهر على ملامح السّيد محمود، فقد كان يهتم كثيراً بمظهره الخارجي: قوي البنية وعلى قدر من الوسامة، تراه دائم الابتسامة، مفعمٌ بالحيوية والنّشاط..الشّيء الّذي جعل زبيدة تتباهى به وهي-من فرط المفاجأة- تبدو كبدوية حديثة العهد بالتمدّن، تقبع أمامه على طاولة مزينة بكل ما تتطلبه المناسبة من “أكسسوارات” كما أمر بذلك مسبقا..
لذلك استغلّ محمود هذه الفرصة السّانحة، لينفذ ما كان يخطط له! حيث وجه إليها كلامه قائلاً:
– أشعر بأننا نبدو كأحسن عشيقين وسط هذا الحضور من الشّباب! التفتت يمنة ويسرة لتكتشف المكان من حولها، وقد زادت نظرات بعض الرّواد ارتباكها، قبل أن تجيب متلعثمة، وكأنّها تلميذةٌ أمام مدرسها:
– يبدو كذلك سيدي؛ فأنا جد محرجة أمام نظرات الإعجاب الّتي تبدو على محياهم..
قاطعها قبل أن تنهي جملتها الأخيرة:
– نحن لسنا في مقر العمل، أرجوك أن تناديني بمجرد “محمود”! دعيني أستلذّ نبرتها وهي تخرج من ثغرك الجذاب.
انكسفت حياءً من هول ما سمعت من كلامٍ معسولٍ لم تتعوّد على مثله في حياتها، جعلها تشعر بأنّ شيئًا ما بداخلها بدأ يهتز على غير عادتها! بينما كان الأمر جد عادي لدى محمود بحكم أقدمية تجربته في مثل هكذا أمور..
قبل أن يهما بمغادرة المكان، لمح يدي زبيدة البيضاوين، وهما ممتدتان على الطّاولة، فلم يتمالك نفسه هذه المرة، ليضع يديه عليهما مقلدا ما سبق أن شاهده في لقطة أحد الأفلام المصرية، كي يقوم بتجسيدها على أرض واقعه هذه المرّة، لعلّها تجدي نفعاً مع ملهمته زبيدة! شدّ اليدين الناعمتين إليه بقوةٍ مخاطباً إياها بنبرة حبّ ووله:
– أسمحي لي أن أصارحك بأنّي بدأت أعجب بك، وبأنوثتك المفعمة بالحيوية والنّشاط وقلبك الطيب.
أحدثت هذه الكلمات الرّنانة اهتزازاً على أوتار فؤادها الغضّ، ثمّ رسمت على ثغرها ابتسامةً جميلةً، وأطرقت برأسها إشارة بأنها تسترضي رقة كلامه.
في مقر العمل، تغير بروتوكول الخدمة تماما: ابتسامات، انحناءات، وكلمات توحي إلى تقارب قلبيهما..
في أول راتب لها، غيرت زبيدة من هندامها، فأقبلت بفستانها الأنيق الجديد، الّذي زاد من رشاقة جسدها، فازدادت لهفة محمود عليها..جعلته يمطرها بفيض من عباراته المعهودة وهو يمدحها ويطري عليها؛ مما سهل قبول عزومتها على مأدبة عشاءٍ في بيته هذه المرّة!
كان محمود بارعاّ في اقتناء وترتيب كل ما تقتضيه اللّيلة، لجعلها حمراء متوهجة؛ تسلب عقل معشوقته الصّغيرة، الّتي قدمت مبكرةً في أبهى حلتها!
قضت أوقاتاً ممتعةً معه: أكل وشرب، رقصٌ وغناءٌ لم يشهده بيته الجديد منذ قدومه..
مضى الوقت سريعاً، لم تفطن له زبيدة حتى شعرت بالتعب والنّعاس، عانقها محمود غير ممتنعة، وأدخلها معه إلى غرفة نومه، حيث اختليا مع بعضهما، والشّيطان ثالثهما، فحدث ما لم يكن بالحسبان!
بقيا على هذه الحالة أياما، حتى أفاقا على وطأة خبر حملها منه!
فاضطرا إلى عقد القران بأقصى سرعة..
عاد محمود بزوجته الجديدة، ليضع أم عياله -إيمان- أمام الأمر الواقع؛ مشترطاً عليها أن تختار بين أمرين: إمّا القبول بالضّرة أو الطّلاق!
شكت المسكينة أمرها إلى الله؛ فهو الكفيل بأخذ حقها منهما إن آجلا أم عاجلا، وبقيت حاضنةً لأطفالها منتظرةً منه عز وجل إنصافها، مخلصةً له في عبادتها كعادتها. أمّا السّيدة زبيدة فقد استقلت في بيت بعيدٍ اكتراه لها، لتعيش فيه مع ابنهما الأول؛ لأنّها بعد عامين أنجبت مولودها الثّاني، وبدأت تضيق الخناق على زوجها محمود بشروطها التعجيزية، مما جعله كثير الاهتمام بها، دون ضرتها إيمان الّتي بدأت تكثر من شكواها لخالقها في كل صلاةٍ بأن يأخذ حقها من هذين الظّالمين..
لم يمهلهما الله سبحانه، حتى بدأت صحة محمود في التّدهور، ورغم ذلك فقد كان مصرا على الطلاق من زوجته الأولى، كما أكدت عليه الزّوجة الثّانية؛ ومن عجيب الصدف، فقد كانت محكمة الأسرة أمام البيت الذي تقطنه السّيدة إيمان.
وفي يوم المقابلة بينهما، فرغت من صلاتها، وفتحت الشّباك المطل على المحكمة، تدعو ربها بأن يفرج كربتها، ويحول بينها وبين أبغض الحلال عنده؛ وإذا بسيارة محامي زوجها تقف تحت بيتها، نزل كعادته حاملا محفظته وبذلته السوداويتين، وهي تراقبه من الشّرفة لا تكف عن الدّعاء، متأهبة لحضور الجلسة الأخيرة، وما كاد المحامي يعبر إلى المحكمة حتى فوجئ بسيارة سريعة تصدمه صدمة قوية، حمل على إثرها إلى المستشفى، مما جعل الجلسة تؤجل إلى أجل مسمى..
أمام هذا المستجد، خاف محمود على نفسه من نقمة زوجته الشّريفة والعفيفة، الشّيء الّذي جعله يلغي قضية الطّلاق نهائياً،أمّا السّيدة زبيدة فقلد استغلّت وضع زوجها الّذي أصبح ميؤوسا منه، أصبحت تصول وتجول على حلّ شعرها كما يقول المثل.
Discussion about this post