الموج الأخير
القصة الفائزة بالمركز الثاني
بقلم/ ربيعة بوزناد
الحياة شجرةٌ باسقة، تتبدّل أوراقها مع كلّ فصل، بعضها يسقط قبل الأوان، وبعضها يرحل مع الرّيح إلى وجهة مجهولة. ونحن البشر، أوراقٌ في مهب الزّمن، نحاول التّشبث بغصن الحياة، رغم يقيننا بأن الرّيح ستأتي يومًا لتقتلعنا. الموت، كالعصافير المهاجرة، يرحل بعيدًا عن أعيننا، لكنّه دائمًا ما يعود في موسمٍ لا نعلمه. وبين تساقط الأوراق ورحيل العصافير، يكمن جوهر الإنسان: محاولة العثور على معنى وسط هذا الزّوال الحتمي.
هكذا، كان حمزة يرى الحياة. شاب يحمل أحلامًا ثقيلة رغم هشاشتها، يعلم أن الموت قد يأتي في أيّ لحظة، لكنّه يرفض أن يستسلم. وفي ليلة باردة، على قارب صغير يتمايل كقصبة وسط بحرٍ غاضب، بدأ قصّته، حيث تداخلت أحلامه مع أحلام شاب آخر، سامبا، ليتشاركا رحلةً بين الحياة والموت، وبين الحلم والنّجاة.
كانت الرّياح تعصف بالقارب كأنّها تصرّ على ابتلاعه. “حمزة”، الشّاب المغربي، جلس على أحد أطراف القارب، يحدّق في الماء الّذي بدا وكأنّه مرآةٌ سوداء تعكس مخاوفه. إلى جانبه كان “سامبا”، الشّاب السّنغالي الّذي بدا وكأنّ الأمواج لا تخيفه، بل تعطيه دروسًا في الصّبر.
قال حمزة وهو ينظر إلى الأفق الّذي لا ينتهي:
“كلّ ما أريده هو حياة كريمة. منزل صغير لوالدتي، وحياة لا تُبنى على الفقر والخوف.”
سامبا ابتسم ابتسامة عميقة، وقال:
“وأنا أحلم بمدرسة صغيرة للأطفال في قريتي. أحلم أن أرى وجوههم تبتسم وهم يتعلمون الحروف الأولى. لكن أخبرني، حمزة… هل تعتقد أنّنا سنصل؟”
صمت حمزة للحظة، ثم قال بصوت خافت:
“لا أدري، سامبا. ربّما هذا البحر سيبتلع أحلامنا قبل أن نصل.”
ضحك سامبا وقال بحماس:
“إذا ابتلع البحر أحلامي، سأزرعها في أعماقه، وستنبت يومًا ما. نحن، يا صديقي، لا نهزم بالموت، بل نهزم عندما نتوقف عن الحلم.”
لكن البحر لم يترك لهما وقتًا طويلًا لتبادل الكلمات. فجأة، تعالت صرخات الرّكاب، وبدأ القارب يترنّح كأنّما تخلت عنه الحياة. ارتفعت الأمواج كجبال سوداء، وضربت القارب بشراسة. حمزة وجد نفسه في الماء، برده القارس يخترق عظامه.
صرخ مستغيثًا، لكنّه شعر بيدٍ قوية ترفعه نحو سطح الماء. كان سامبا، الّذي قال بصوتٍ مملوء بالإصرار:
“لا تستسلم، حمزة! أحلامك تنتظرك!”
حاولا السّباحة نحو صخرة بدت كملاذ وسط الفوضى، لكن فجأة ضربت موجة عنيفة سامبا، دافعة إياه نحو الصّخرة. ارتطم رأسه بها، وغاب عن الأنظار كطائر فقد جناحيه.
صرخ حمزة بألم، لكنّ الأمواج كانت أقوى منه. لم يتمكن من إنقاذه، ووجد نفسه مدفوعًا نحو الشّاطئ، حيث فقد وعيه.
عندما أفاق، كان مستلقيًا على رمال شاطئ إسباني. نظر حوله؛ لا سامبا، لا قارب، لا شيء سوى البحر، الّذي بدا وكأنّه يبتسم بسخرية. جلس هناك لساعات، يحمل في داخله ثقل نجاته وخسارته في آنٍ واحد.
تذكّر كلمات سامبا:
“نحن لا نهزم بالموت، بل نهزم عندما نتوقّف عن الحلم.”
لكن كيف يمكنه أن يحلم الآن؟ كيف يمكنه أن يحمل عبء أحلامه وأحلام سامبا معًا؟
مرّت أيام، وحمزة يجوب الشّوارع الإسبانية بجسدٍ نجا وروحٍ غارقة في الذّنب. رأى أطفالًا يلعبون في الأزقّة، وتذكّر وجه سامبا وابتسامته. كان يشعر أنّ عليه أن يفعل شيئًا. العودة إلى المغرب كانت قراره الوحيد.
عاد إلى قريته، حيث وجد الأطفال يلعبون بالطّين كأنّهم لا ينتظرون شيئًا من الحياة. وقف أمامهم وقال لنفسه:
“سأجعل حلم سامبا يعيش هنا. سأبني مدرسةً لأجل هؤلاء الأطفال، كما أراد هو أن يفعل ”
بعد سنوات، أصبحت في القرية مدرسة صغيرة، جدرانها تحمل رسومات الأطفال وأحلامهم الملوّنة. كان حمزة يقف على الشّاطئ المغربي، ينظر إلى الأفق الّذي عبره يومًا، ويهمس لنفسه:
“سامبا، لم تمت… حلمك يعيش هنا.”
ربيعة بوزناد
Discussion about this post