#قراءة_في_عنوان
قراءة في عنوان «لو يخجل الموت قليلًا» للكاتب عبد العزيز كوكاس
نورالدين طاهري
يأتي عنوان منجز المفكر عبدالعزيز كوكاس «لو يخجل الموت قليلًا» مشحونا بطاقة إيحائية تفتح أمام القارئ بوّاباتٍ من التأمل الفلسفي والوجداني، إذ يوحي بفكرة التعلّق بآخر خيطٍ من خيوط الحياة قبل الانجراف نحو المصير المحتوم. فكأنّ الكاتب يستحضر الموت لا بوصفه نهاية مطلقة، بل كحالةٍ ملتبسةٍ يمكن تأجيلها أو تعليقها، في محاولة لإفساح المجال أمام الذات كي تحيا تجربة وجودية أكثر اكتمالا. وفي ذلك ملمحٌ جوهريٌّ من ملامح الكتابة التي تجعل من السؤال الوجودي مركزا تدور حوله الأحداث والوقائع.
على ظهر الغلاف، يلوح للقارئ نص مواز يؤطّر رؤية الكاتب ويساعد في استكناه المناخ العام للعمل؛ إذ يوحي بأننا أمام عالم سرديٍّ يتعامل مع الحياة والموت بوصفهما قطبين متنافرين، لكنهما متعاضدان في آنٍ واحد. يتقاطع في هذا العالم هاجسُ التأمل العميق بطبيعة الزمن الهارب، والخوفُ الكامن من لحظة الفناء التي تُراود الوعي الإنساني كلما التفت حوله الظلال. يشي ما كُتب على الغلاف بأن المنجز لا يقتصر على بوحٍ شخصيٍّ منعزل، بل يمتد ليستوعب فضاءاتٍ اجتماعيةٍ وثقافية، يتلمّس الكاتب فيها مواطن التصدّع والتوق إلى البقاء، مازجا الهمّ الفرديّ بهمٍّ جماعيٍّ يرصد واقعا إنسانيّا محتقنا بأسئلة الهوية والمصير.
إن صيغة العنوان «لو يخجل الموت قليلًا» تحمل في ثناياها رجاء دفينا في تأخير لحظة الاختفاء النهائي، وكأنّ الكاتب ينادي الموت أن يتمهّل في دورته الحتمية. هذا النداء، وإن بدا في ظاهره تمنيا شبه مستحيل، إلا أنّه يفجّر مكامن الحسّ الفلسفي الكامن في طبيعة العلاقة بين الإنسان والعدم. فثمة مسافة يطلبها السارد بين الحياة والموت، هي أشبه بمساحة ضبابية للتأمل والتفكّر، وللانفتاح على احتمالات قد تغيّر مجرى الأحداث أو تعيد ترتيب الأوراق. إنّه عنوانٌ يفجّر أسئلة الحرية والاختيار في مواجهةٍ مباشرةٍ مع حدودٍ لا يمكن التملص منها، ويؤسّس في الوقت نفسه لنبرة سردية تتسم بالتشويق والتوتر الوجودي.
يقدّم ظهر الغلاف إشاراتٍ إلى اشتباك الفكر مع قضايا إنسانية واجتماعية متنوعة، ما يجعل النصّ يحيد عن نمطية الحكاية البسيطة نحو أفق سرديّ أرحب وأعمق. يُفهم من هذا الاشتباك أنّ الكاتب لا يكتفي بعرض واقعةٍ دراميةٍ تحكمها ثنائية الحياة والموت، بل يتوغّل في معمار المجتمع وخلفياته الثقافية، ليتتبع حركة الشخصيات وهي تواجه الواقع الملتبس، وقد أثقلتها هموم المصير والخوف من النهاية. إنّه نصٌّ يلوح للوهلة الأولى وكأنّه صرخةٌ وجودية، لكنه سرعان ما يتحول إلى تأمّل جمعي في ماهية الكينونة الإنسانية، وفي كيفية ترويض القلق من الموت عبر التشبث بالحياة.
من خلال ما ورد على ظهر الغلاف، يمكن استشفاف أنّ أسلوب عبد العزيز كوكاس في هذا الكتاب يميل إلى المزج بين اللغة الرمزية والإيحاءات الفلسفية. فالموت ليس مجرد حدث عابر أو مفصل في مصير شخصيةٍ ما، بل يتحوّل إلى رمز مكثّف يستدعي منظومة من الأسئلة حول الزمن والوجع والخلاص. تميل اللغة إلى التقاط الجزئيات الهاربة من اليوميّ، وتعظيمها حتى تتحول إلى بوّابة لتأملٍ أرحب في معنى البقاء والرحيل. كما يبدو أنّ الكاتب يستثمر تقنياتٍ سرديةً تتيح تعدّد الرؤى، ما يضفي على النصّ حيوية تكسر خطية السرد، وتمنح القارئ فرصة التنقل بين أزمنةٍ وأمكنةٍ تنسج فسيفساء الوجود الإنساني الملتبس.
تتقاطع الدلالة الجمالية للغلاف، سواء من حيث العنوان أو الصورة واللون، مع مضمون المنجز، فتشكّل بوابة نفسية وذهنية لدخول عالم محفوفٍ بالقلق الوجودي والأسئلة الميتافيزيقية. إنّ اختيار ورقة شجرٍ ذابلةٍ أو صورةٍ للزمن الخريفي (كما يبدو في الغلاف) لا يأتي اعتباطا، بل يحمل في رمزيته صدى لحظة الأفول التي تطارد الإنسان، وتجعل من الموت هاجسا يوميّا حتى وسط الحياة النابضة. في المقابل، هناك بُعدٌ من الأمل ينبثق من العنوان نفسه، إذ يوحي الفعل «يخلج» بفكرة الحركة والتململ، كأن الموت ليس ثابتا جامدا، بل يمكنه أن يتزحزح أو يتلكأ قليلا، فتنفسح أمام الشخصيات فسحة لإعادة النظر وترميم ما تخرّب من ذواتهم.
يدعونا الكتاب «لو يخجل الموت قليلا» إلى مغامرةٍ تأمليةٍ تنبض بالسؤال الوجودي المركزي: كيف نحيا في ظلّ نهايةٍ وشيكةٍ؟ إنّه يتخذ من العنوان بوّابةً كبرى تلج منها تأملات فلسفية واجتماعية تشتبك فيها خيوط الواقع وأطياف الحلم. أما المعلومات المقتضبة على ظهر الغلاف، فتكشف ملامح عالم فكري يتسم بالشمول والعمق، عالم يحتضن شخصيات تنظر إلى الموت من زاوية التأجيل والرغبة في البقاء، ويعيد طرح العلاقة بين الكائن والفناء على نحو يحرّض على التفكير أكثر مما يقدّم إجابات نهائية. يمنح هذا العمل قارئه فرصة لالتقاط أنفاسه قبل مواجهة الهاوية، مؤكدا أنّ الكتابة قادرة على ترويض الفناء، أو على الأقل تأجيله—ولو قليلا.
Discussion about this post