قصة قصيرة:
حياة ثانية
طوال هذا الأسبوع، ونسيج أعصابنا مشدود؛ نصطفُّ بكامل بهاء ألواننا في انتظار الزوار، منذ تفتُّح الطبيعة خارج القاعة صباحاً، حتى احتضارها على صدورنا مساءً. وهَهُو صبح جديد تتدفق ضياؤه عبر النوافذ، مفعمةً بعبق الزهور، تُبدِّل عتمة الرواق نوراً، وتملأ سكونه بضجيج الأماني؛ أماني محمولة على وقع أقدام تتزاحم عند المدخل، وصوت أختي الكبرى مِن عن يميني يدعونا إلى التأهُّب.
أنتفض في مكاني، وأُعدل من وضعيتي بحركات مرتبكة. فعلى عكس أخواتي، هذا هو معرضي الأول، وما زلتُ أفتقر الخبرة في لعبة التجمل والإثارة، كما لم أعتد بعدُ على تصرفات بعض الجمهور الأرعن؛ ولَكَم أحرجني بالأمس ذلك الفتى الأخضر الذي تسمر أمامي لحظةً، ثم قرب وجهه مني حتى كادت أنفاسه الملتهبة تذيب الصباغة على وجهي، وطفق يحملق في تفاصيلي، متوقفاً عند أدق النتوءات البارزة من تحت ردائي؛ وعلى حين غرة، مد يده نحوي. لم ينقذني من محاولة عبثه إلا صوت والدي الذي أتاه من خلفه بنبرة صارمة: “ممنوع اللمس يا صديقي!”، وهو يضع ذراعه على كتفه، ساحباً إياه في جولة لمشاهدة باقي اللوحات الفنية، تحت مراقبته.
لعلي أكون أوفر حظًّا اليوم، إذ لا أقوى على أن أُخيب آمال والدي؛ والدي المفتون برسم الطبيعة، كم تعب وسهر الليالي يخط ويلون ليخرجنا إلى الوجود، أنا وأخواتي، في أجمل صورة؛ وكم ظل يحيطنا بعطفه واهتمامه مُردِّداً: “أنتُنَّ بناتي!”، حتى كبُر فينا اليقين بأن سعادتنا مرهونة بين يدَي بني البشر.
هبَّة نسيم منعشة تداعب وجهي وتوقظ حواسي، جاذبةً انتباهي إلى النافذة المشرعة عن يساري، حيث تظهر لوحة فنية أخرى؛ لوحة حية، يحيطها سور تتسلقه نباتات لبلاب مشاغبة، منافِسةً في تغطيته شجيراتَ جهنميةٍ كثيفة ترسل مع الريح سلامها، مُحمَّلاً بحبوب لقاح وما تساقط عنها من زهور، إلى جدول ماء انعكست على وجهه زرقة السماء؛ تُزينه بالحمولة السخية، وينساب هو مختالاً بِزينته بين أشجار مثمرة موزعة على بساط أخضر، لا يحد من امتداد عشبه إلا سور الحديقة.
أسافر بحواسي إلى ذلك الفضاء الحيوي البهيج، أملأ رئتي بهوائه النقي، وأروي العين بألوانه التي تنعكس على ألواني، فتزيدها لمعاناً ورونقاً. يغمرني شعور بالخفة، فأطير في سماء الحديقة رفقة الفراشات المرفرفة التي تهمس لي بأنني، يقيناً، أنتمي إلى هذه الطبيعة الحية.
همسٌ، يلهيني المرح عن التفكير في حقيقته، كما في حقيقة الحياة أو الموت، والفرق بين الطبيعة الحية دائمة التجدد مع اختلاف الفصول وساعات النهار والليل، مشكِّلةً آلاف اللوحات المُبهِرة، والطبيعة الميتة المحاصرة بإطار خشبي، والتي رغم ذلك، نالت بعض لوحاتها حظًّا كبيراً من المجد والشهرة على امتداد السنين، مات أصحابها وبقيت هي خالدة… لِمَ إذن أشغل بالي إن كنتُ حية أو ميتة، طالما أنا أيضاً، من المحتمل أن يكون وجودي أبقى وأعظم؟!
أتراقص منتشيةً على لحن خرير الجدول الرقراق، وهو يحملني معه إلى تخوم أحلام وردية صحبة فارس الفن الذي سأُزَفُّ إلى ذائقته. أراه يعتني بي ويصونني؛ يزورني في كل حين، يجول بعينين فضوليتين على تموجات شكلي وتدرجات ألواني. في حدقتيه، أعاين تلألؤ انعكاس صورتي، وأجدني أسيرة نظراته المستكشفة التي تخترق طبقات جسدي، جاعلةً عُقَد أليافي ترتخي وعويناتَها تتسع استجابةً لتساؤلاته، فتضيء له زاويةً من أركاني وتبوح له بسِر من أسراري. ومع كل اكتشاف، يتجدد عشقه لي، ويهمس لي: “أنتِ كنز لا ينقضي!”، فتنتعش الألوان في أنسجتي، وأزداد حسناً ونضارة.
ألتفتُ يميناً مُستطلِعةً حظ أخواتي في محاولاتهن استقطاب إعجاب فرسان الألوان، فأرى أبي يتقدم نحونا، متأبطاً ذراع زائر جديد. وإذ يعرضنا عليه، يسهب في الحديث عن التقنيات والمواد التي ابتكرها من أجل إبداعنا، وكيف خلَّد عناصر الطبيعة فينا، إلى أن يوقفه الرجل الأزرق بحركة من يده: “لا داعي لمزيد من الشروحات!”، ويضيف مشيراً إليَّ: “أُفضِّل هذه…”.
تبرق في عيني صور مستقبلي الزاهي، مُلقِيةً بضيائها على كافة جسدي، فتتورد ألواني فرحاً؛ سرعان ما سيخبو بريقها، وأنا أسمعه يسترسل بصفاقة:
“أنا تاجر لوحات… ما يهمني هو مجاراة سوق العرض والطلب، وأقصى ما يعنيني هو تناسق ألوان اللوحات مع صالونات زبائني!”.
أُحدق في عينيه، فلا أرى دفئاً ولا شغفاً. بل أصطدم بنظرات باردة تنِمُّ عن فراغ، لا يملؤه سوى المال الذي يخرجه من حافظة نقوده، في حركة استعراضية لإبهار والدي، مادًّا إليه حزمة أوراق زرقاء في مثل زرقة سحنته.
تنقبض عُقَد أليافي ويتكدر صفاء ألواني؛ وبينما تأخذ أنامل والدي المرتجفة في عد الأوراق النقدية المتلاصقة، أصرخ في أعماقي: “ما هذا يا أبي؟ كيف تسلمني لمن لا يتذوق الفن ولا يقدره؟!”.
أنظر جهة أخواتي مستجديةً مساعدةً أو تعاطفاً، فأجدهن أعجز مني. أُرجع البصر جهة مالكي الجديد، فأَراني معلقةً على حائط كئيب، وحيدة مهملة، سجينة خلف واجهة زجاجية واقية تكاد تخنق أنفاسي.
وقبل أن تنحبس أنفاسي، أسمع نداء الفراشات في رأسي، يطرق باب بصيرتي، مُزلزِلاً جميع قناعاتي. تتوالى الطَّرقات ويتضاعف صداها مُتردداً بقوة في باقي أنحاء جسدي، مُحدِثاً رجات عنيفة في أنسجتي مع ألم فظيع يمزق أليافي. وإذا برسوماتي الساكنة تنتفض ثائرةً، مُنسلِخةً عن القماش وإطاره، مُقتلِعةً معها طبقات الأصباغ؛ وإذ تتشظَّى عناصرها مُتطايرةً من النافذة صوب الحديقة حيث نظيراتها العضوية الحية، تلقي بألوانها في حضن الطبيعة الرحبة؛ وفي تماس عجيب، يمتزج الأخضر بالعشب، ويتجذر الترابي في التراب، ويذوب الوردي في الزهر، وينغرس البني في جذوع الشجر، ويطفو السماوي على سطح ماء الجدول.
– نعيمة السي أعراب
Discussion about this post