#قراءات_نقدية
“الفن بين الحياة والموت: صراع الألوان في قصة ( حياة ثانية ) للكاتبة نعيمة السي أعراب ”
بقلم نور الدين طاهري
عندما تتلاقى الألوان مع الأضواء، وتلتقي الصورة بالحياة، تنبثق أمامنا أسئلة لا تعد ولا تحصى عن الجمال والموت، الفن والحياة. هنا، حيث يختلط الإبداع بالواقع، تظهر اللوحة ككائن حي، تتنفس، تتفاعل، وتطرح تساؤلات وجودية تجعلنا نتوقف طويلا أمام معاني الحياة والموت. في قصة “حياة ثانية”، يُقدّم الفن كوسيلة للبقاء والتجدد، كرمز حيٍّ لا يُمكن أن يُختزل في مجرد إطار مادي. مع كل لمسة لون، ومع كل تأمل في الزمان والمكان، نشهد صراعا داخليا يعيشه الفنان بين الطموح الشخصي والمادية التي تحيط به، وبين سوق الفن الذي لا يتعامل مع الإبداع إلا كسلعة. تُثير هذه القصة مسألة حيوية: هل يمكن للفن أن يظل صادقا وأصيلا في عالم تحكمه قوانين التجارة والطلب والعرض؟
من خلال القراءة لهذه القصة القصيرة، يمكننا أن نستجلي عدة أبعاد نقدية تتداخل فيما بينها وتُحاكي الواقع المعاصر بأسلوب متقن، يزاوج بين الحس الفني والتأمل الفلسفي، لتقدم لنا رؤية معقدة عن مفهومي الحياة والموت، والروحانية والمادية. النص يعمل على بناء عالم مزدوج: عالم طبيعة نابضة بالحياة وعالم الفن المجمَّد الذي يُحاصر في إطار، ليُبرز التوتر بين هذين العالمين من خلال تجربة الشخصية الرئيسية.
فيما يخص اللغة، تظهر الكاتبة براعة كبيرة في توظيف مفردات دقيقة ومشحونة بالرمزية. نجد في جملة مثل: “تتدفق ضياؤه عبر النوافذ، مفعمةً بعبق الزهور”، لغة حية تنبض بالتجدد، تعكس في آن واحد اليقظة الطبيعية والجمالية التي تعيشها الشخصية. فالمكان هنا ليس مجرد خلفية جغرافية، بل هو كائن حي يشارك البطل تجربته ويعبر عن حالته الداخلية. كما أن الصورة المجازية في عبارة “وتملأ سكونه بضجيج الأماني” تكشف عن تناقض في المشاعر التي تختلج الشخصية: هدوء الطبيعة من جهة، وحركة الأماني المتجددة من جهة أخرى. إنها صورة لارتباك داخلي، حيث تحاول الشخصية التوفيق بين تطلعاتها وموقعها في هذا العالم المادي.
اللغة تتحول أيضًا إلى لغة شعرية في أكثر من موضع، كما في الوصف الذي تصفه “بهواك النقي” و”الفراشات المرفرفة” و”الطبيعة الحية” والتي تمثل تساؤلات الشخصية وجوديتها، فتتلاقى الروح البشرية مع الروح الطبيعية في تناغم قد يراه القارئ جمالياً، لكنه يحمل في طياته تساؤلا فلسفيا عميقا حول الوجود والمعنى. على الرغم من السكون الذي يحيط بالشخصية، إلا أن اللغة تنبض بالحركة والتوتر النفسي، فتجد أن النغمات الشعرية تتصاعد لتكشف عن القلق الداخلي، الذي يظهر في التردد الحائر بين “الحي” و”الميت”، بين الفن الحي المتجدد وبين اللوحة المعلقة خلف الزجاج التي أصبحت قطعة جامدة.
أما عن الأسلوب، فلا بد من الوقوف عند هيكلة النص وتنقلاته بين الواقع والحلم، بين الطبيعة والمجتمع المادي. الأسلوب السردي يتنقل بين الزمن الحاضر للمعرض وبين ذكريات سابقة، فيخلق حالة من الحضور الغائم بين الذاكرة والأمل، وبين اليقين والشك. هيكلة السرد التي تستخدم المقاطع القصيرة والمشحونة بالصور البلاغية تؤدي دورا مهما في نقل الحالة النفسية للشخصية: فهي تتنقل بين مشهد آخر في لوحتها إلى آخر في الطبيعة، مما يعكس التوتر الدائم في الوعي بين هذه العوالم.
عند الحديث عن بنية النص، نلاحظ أن التوتر الأساسي هو بين الفضاءين اللذين يتنقل فيهما البطل: الفضاء الطبيعي الزاخر بالحياة والمُفعم بالتفاؤل، وفضاء اللوحة المعلق في إطار زجاجي، الذي يمثل الحياة المغلقة أو “الميتة”. النص يتنقل بين هذين العالمين، وكأنهما في صراع مستمر. من خلال التجارب الحسية التي تختبرها الشخصية، تُمثل الطبيعة الحية كمرآة للجمال الفطري والتجدد الدائم، في حين أن الفن – وتحديدًا اللوحة – يصبح، بمرور الوقت، محاصرًا داخل قيود المادية. الكاتبة تُجسِّد هذا التوتر بين الوجود الحيوي والوجود المجمد عبر العديد من الصور البيانية، مثل “ينعكس على وجهه زرقة السماء”، والتي تظهر فيها الطبيعة بشكل حيٍ ومتكامل، وكأنها تتفاعل مع ملامحها بشكل دؤوب.
المشهد الذي يتجسد فيه التاجر الأزرق يمثل نقطة التحول في القصة: هنا يُطرح السؤال الأهم حول قيمة الفن في العالم المعاصر. فالفنان الأب الذي يشبع طموحات أبنائه بالتفاني والحب الفني، يجد نفسه فجأة في موقف يجبره على “بيع” هذا الفن في سوق لا يهتم بجماله، بل يراه مجرد سلعة. هنا تصبح اللوحة مجرد “مادة”، ويصبح الفن الذي كان يوما منبعا للجمال اللامتناهي، مجرد سلعة قابلة للعرض والطلب. يمكن للقارئ أن يشعر بمرارة التحول الحاصل عندما يصبح الفن مجرد أداة لتحقيق المكاسب المادية.
القصة تتعامل بعمق مع مفهومي الحياة والموت، حيث تتصادم الأفكار الوجودية لدى الشخصية الرئيسية. يشكك الراوي في مفهوم الحياة، ويطرح تساؤلات فلسفية حول معنى وجوده: هل هو حي كما هو الحال مع الطبيعة التي تتجدد دائمًا؟ أم أنه ميت، كما هي الحال مع اللوحات المعلقة التي يتم إخفاؤها خلف الزجاج؟ النص يطرح أن الفن، رغم أن وفاته لا تُرى بوضوح، قد يحمل حياةً أبدية في ذاكرة الأجيال القادمة، بينما قد تكون حياة الإنسان عابرة، لكن قوته تكمن في الخلود المحتمل الذي قد يناله من خلال “التوثيق” أو “الخلود” في لوحات مبدعة.
أما عن ربط النص بالمعطيات الثقافية، فإن ما يظهر هو نقد لاذع للمجتمع المعاصر الذي يستهلك الفن بشكل مادي وجامد. التاجر الذي يهتم فقط بـ”تناسب الألوان مع صالونات الزبائن” يقدم صورة قاتمة عن العالم الذي يحيا فيه الفنانون: عالم يعرض فنهم على رفوف البيع ويمنح قيمة فقط لما يمكن تحويله إلى نقود. في هذا العالم، لا تهم القيم الجمالية أو الروحية بقدر ما تهم القدرة على استغلالها في السوق التجارية. من خلال هذا، تطرح القصة تساؤلات عن الهوية الفنية في عصر استهلاكي.
يمكن القول إن “حياة ثانية” هي رحلة فلسفية عميقة تدرس العلاقة بين الإنسان والفن، وبين الفن والمجتمع. تدور هذه القصة حول الصراع الداخلي الذي يعيشه الفنان في عالم مادي، وعن محاولاته للبحث عن قيمته الإنسانية والروحية، بينما يتعرض لمخاطر الاستهلاك التجاري. ولكن، وفي هذا الصراع، تُظهر القصة الأمل في التجدد والتغيير، ففي النهاية، لا يزال الفنان يمتلك القدرة على الانبعاث من جديد، عبر الفن، حتى وإن بدا أن العالم يطوي صفحات الفن الخالد.
——-
المرجع
– نعيمة السي أعراب، جريدة العلم، العدد 25965 الخميس 20 فبراير 2025 –
قصة قصيرة:
حياة ثانية
طوال هذا الأسبوع، ونسيج أعصابنا مشدود؛ نصطفُّ بكامل بهاء ألواننا في انتظار الزوار، منذ تفتُّح الطبيعة خارج القاعة صباحاً، حتى احتضارها على صدورنا مساءً. وهَهُو صبح جديد تتدفق ضياؤه عبر النوافذ، مفعمةً بعبق الزهور، تُبدِّل عتمة الرواق نوراً، وتملأ سكونه بضجيج الأماني؛ أماني محمولة على وقع أقدام تتزاحم عند المدخل، وصوت أختي الكبرى مِن عن يميني يدعونا إلى التأهُّب.
أنتفض في مكاني، وأُعدل من وضعيتي بحركات مرتبكة. فعلى عكس أخواتي، هذا هو معرضي الأول، وما زلتُ أفتقر الخبرة في لعبة التجمل والإثارة، كما لم أعتد بعدُ على تصرفات بعض الجمهور الأرعن؛ ولَكَم أحرجني بالأمس ذلك الفتى الأخضر الذي تسمر أمامي لحظةً، ثم قرب وجهه مني حتى كادت أنفاسه الملتهبة تذيب الصباغة على وجهي، وطفق يحملق في تفاصيلي، متوقفاً عند أدق النتوءات البارزة من تحت ردائي؛ وعلى حين غرة، مد يده نحوي. لم ينقذني من محاولة عبثه إلا صوت والدي الذي أتاه من خلفه بنبرة صارمة: “ممنوع اللمس يا صديقي!”، وهو يضع ذراعه على كتفه، ساحباً إياه في جولة لمشاهدة باقي اللوحات الفنية، تحت مراقبته.
لعلي أكون أوفر حظًّا اليوم، إذ لا أقوى على أن أُخيب آمال والدي؛ والدي المفتون برسم الطبيعة، كم تعب وسهر الليالي يخط ويلون ليخرجنا إلى الوجود، أنا وأخواتي، في أجمل صورة؛ وكم ظل يحيطنا بعطفه واهتمامه مُردِّداً: “أنتُنَّ بناتي!”، حتى كبُر فينا اليقين بأن سعادتنا مرهونة بين يدَي بني البشر.
هبَّة نسيم منعشة تداعب وجهي وتوقظ حواسي، جاذبةً انتباهي إلى النافذة المشرعة عن يساري، حيث تظهر لوحة فنية أخرى؛ لوحة حية، يحيطها سور تتسلقه نباتات لبلاب مشاغبة، منافِسةً في تغطيته شجيراتَ جهنميةٍ كثيفة ترسل مع الريح سلامها، مُحمَّلاً بحبوب لقاح وما تساقط عنها من زهور، إلى جدول ماء انعكست على وجهه زرقة السماء؛ تُزينه بالحمولة السخية، وينساب هو مختالاً بِزينته بين أشجار مثمرة موزعة على بساط أخضر، لا يحد من امتداد عشبه إلا سور الحديقة.
أسافر بحواسي إلى ذلك الفضاء الحيوي البهيج، أملأ رئتي بهوائه النقي، وأروي العين بألوانه التي تنعكس على ألواني، فتزيدها لمعاناً ورونقاً. يغمرني شعور بالخفة، فأطير في سماء الحديقة رفقة الفراشات المرفرفة التي تهمس لي بأنني، يقيناً، أنتمي إلى هذه الطبيعة الحية.
همسٌ، يلهيني المرح عن التفكير في حقيقته، كما في حقيقة الحياة أو الموت، والفرق بين الطبيعة الحية دائمة التجدد مع اختلاف الفصول وساعات النهار والليل، مشكِّلةً آلاف اللوحات المُبهِرة، والطبيعة الميتة المحاصرة بإطار خشبي، والتي رغم ذلك، نالت بعض لوحاتها حظًّا كبيراً من المجد والشهرة على امتداد السنين، مات أصحابها وبقيت هي خالدة… لِمَ إذن أشغل بالي إن كنتُ حية أو ميتة، طالما أنا أيضاً، من المحتمل أن يكون وجودي أبقى وأعظم؟!
أتراقص منتشيةً على لحن خرير الجدول الرقراق، وهو يحملني معه إلى تخوم أحلام وردية صحبة فارس الفن الذي سأُزَفُّ إلى ذائقته. أراه يعتني بي ويصونني؛ يزورني في كل حين، يجول بعينين فضوليتين على تموجات شكلي وتدرجات ألواني. في حدقتيه، أعاين تلألؤ انعكاس صورتي، وأجدني أسيرة نظراته المستكشفة التي تخترق طبقات جسدي، جاعلةً عُقَد أليافي ترتخي وعويناتَها تتسع استجابةً لتساؤلاته، فتضيء له زاويةً من أركاني وتبوح له بسِر من أسراري. ومع كل اكتشاف، يتجدد عشقه لي، ويهمس لي: “أنتِ كنز لا ينقضي!”، فتنتعش الألوان في أنسجتي، وأزداد حسناً ونضارة.
ألتفتُ يميناً مُستطلِعةً حظ أخواتي في محاولاتهن استقطاب إعجاب فرسان الألوان، فأرى أبي يتقدم نحونا، متأبطاً ذراع زائر جديد. وإذ يعرضنا عليه، يسهب في الحديث عن التقنيات والمواد التي ابتكرها من أجل إبداعنا، وكيف خلَّد عناصر الطبيعة فينا، إلى أن يوقفه الرجل الأزرق بحركة من يده: “لا داعي لمزيد من الشروحات!”، ويضيف مشيراً إليَّ: “أُفضِّل هذه…”.
تبرق في عيني صور مستقبلي الزاهي، مُلقِيةً بضيائها على كافة جسدي، فتتورد ألواني فرحاً؛ سرعان ما سيخبو بريقها، وأنا أسمعه يسترسل بصفاقة:
“أنا تاجر لوحات… ما يهمني هو مجاراة سوق العرض والطلب، وأقصى ما يعنيني هو تناسق ألوان اللوحات مع صالونات زبائني!”.
أُحدق في عينيه، فلا أرى دفئاً ولا شغفاً. بل أصطدم بنظرات باردة تنِمُّ عن فراغ، لا يملؤه سوى المال الذي يخرجه من حافظة نقوده، في حركة استعراضية لإبهار والدي، مادًّا إليه حزمة أوراق زرقاء في مثل زرقة سحنته.
تنقبض عُقَد أليافي ويتكدر صفاء ألواني؛ وبينما تأخذ أنامل والدي المرتجفة في عد الأوراق النقدية المتلاصقة، أصرخ في أعماقي: “ما هذا يا أبي؟ كيف تسلمني لمن لا يتذوق الفن ولا يقدره؟!”.
أنظر جهة أخواتي مستجديةً مساعدةً أو تعاطفاً، فأجدهن أعجز مني. أُرجع البصر جهة مالكي الجديد، فأَراني معلقةً على حائط كئيب، وحيدة مهملة، سجينة خلف واجهة زجاجية واقية تكاد تخنق أنفاسي.
وقبل أن تنحبس أنفاسي، أسمع نداء الفراشات في رأسي، يطرق باب بصيرتي، مُزلزِلاً جميع قناعاتي. تتوالى الطَّرقات ويتضاعف صداها مُتردداً بقوة في باقي أنحاء جسدي، مُحدِثاً رجات عنيفة في أنسجتي مع ألم فظيع يمزق أليافي. وإذا برسوماتي الساكنة تنتفض ثائرةً، مُنسلِخةً عن القماش وإطاره، مُقتلِعةً معها طبقات الأصباغ؛ وإذ تتشظَّى عناصرها مُتطايرةً من النافذة صوب الحديقة حيث نظيراتها العضوية الحية، تلقي بألوانها في حضن الطبيعة الرحبة؛ وفي تماس عجيب، يمتزج الأخضر بالعشب، ويتجذر الترابي في التراب، ويذوب الوردي في الزهر، وينغرس البني في جذوع الشجر، ويطفو السماوي على سطح ماء الجدول.
Discussion about this post