#قراءات
” قراءة في رواية “تيه في رحلة الحياة” للروائي نور الدين طاهري ”
الأستاذة مريم أبوري
ما أن يقع النظر على لوحة غلاف الرواية ، نشعر بقشعريرة خوف من هذا الشبح الذي لا نميز ملامحه التي يخفيها غطاء الرأس، شبح أسود يخفي يديه أو ربما قد تكون متلاشية كما هي أطرافه السفلى. ونحن ننزل نظرنا في هذا السواد المتوحش يوقفنا بياض ، يخفف من الشعور برهبة تجاه هذا الشبح كأنه روح خرجت من قبر من مقبرة ما . هذا اللون الأبيض هو عنوان تربع في وسط الغلاف (تيه في رحلة الحياة) ، فالعنوان بما فيه من كلمات مفتاح (les mots-clés ) من تيه ورحلة وحياة، و سوداوية الغلاف وشبحه يثيران الفضول كي نفتح الرواية، و ونتبع خطوات هذا الشبح ونرى أين سيوصلنا.
ما أن بدأ السارد يحكي لي الحكاية ، استسلمت لحكيه، وبدأ يتلاشى ذلك الخوف الذي شعرت به مع الغلاف ، شدتني الأحداث ، أكيد لأن الأسلوب الذي خط بها الراوي فصولها الواحد والثلاثون، أسلوب أنيق وقد نقول عنه السهل الممتنع، أسلوب فرش على ملاية اصغائنا له، أحداثا إجتماعية ثقيلة وقعت بين المغرب و فرنسا ، حوارات قوية نفسية وفلسفية و سوسيولوجية ووجدانية، دارت بين الأم ، الحاضرة بقوة في الرواية سواء مباشرة في أحداث المغرب التي عاشهامحمد بطل الرواية ، أو عبر طيفها وروحها وقد وصل إلى اسبانيا ثم فرنسا عبر الهجرة السرية .إحدى الحوارات بين الأم و محمد ذكرتني بحوار دار بين جدتي رحمها الله وعمي لما أخبرها أنه سيتزوج سيدة غربية ، حوار يظهر خوف وتخوف الأم من عواقب زواج بين حضارتين، و تقاليد وعادات وديانتين مختلفتين، لكن عمي كما محمد استطاع أن يطمئن جدتي وأنه لن يفرط في دينه ولا في عاداته وتقاليده.
كانت حوارات أخرى كذلك جد عميقة بين محمد وصديقه مصطفى و زوجته كارينا ثم بين محمد وحبيبته أليسا التي ستعرف نهاية تراجيدية بعد أن خففت عن محمد كل معاناته المرة التي عاشها منذ طفولته مع الفقر و فقدان الأب..و شبابه و جدار البطالة الذي حال بينه وبين أن يبقى في وطنه وببلدته الهادئة فيضظر إلى الهجرة السرية كما هو الشأن مع الكثير من شباب وشابات بل حتى أطفال المغرب ، فيحط الرحال بفرنسا حيث كانت صعوبة التشرد والمبيت في العراء إلى مرحلة الحصول على عمل بمساعدة مصطفى. مصطفى ذلك الرمز للمغاربة الذين يقدمون المساعدة للمهاجرين السريين بفرنسا من أجل الحصول على سقف يقيهم من البرد و من مطاردة الشرطة لهم.
عاش محمد تيها كبيرا في حياته ، تيها بقي كشبح ينغص عليه العيش ، لكنه طيلة مشواره فيها لم يفقد الأمل بسند من أمه وعائلته و صديقه مصطفى وزوجته أليسا .
محمد نموذج المغربي الذي ترغمه الحاجة والفقر و البحث عن العيش بكرامة، يرغمه كل ذلك على الهجرة القصرية، فيجد نفسه في مجتمع فيه الكثير من العادات والتقاليد والأفكار والمعتقدات الدينية، الغريبة عنه، ليعيش غربة لكن فيها الإرادة والرغبة و الاقتناع باكتشاف هذا العالم الجديد والتأقلم معه دون فقد هويته المغربية والإسلامية.
محمد رمز المهاجر المغربي الذي تعلم كيف يقبل الآخر ويعمل على اكتشافه و فهمه واحترامه عبر الحوار و التسامح ..لأنهما ركيزتان أساسيتان لعيش مشترك مع الاختلاف لكن دون اصطدام.
قلت استسلمت لسرد الراوي لكل ما ذكرته ولكن كذلك لأن حكاية محمد ذكرتني بعدة حكايات عايشتها مع مهاجرين ومهاجرات وصلوا إلى فرنسا عبر الهجرة السرية ، وأنا أصغي لحكي الراوي، تراقصت أمامي عدة شخصيات مثل محمد ، سواء من المغرب أو من بلدان إفريقية و من سوريا و السودان وجنوب السودان وتونس وليبيا والعراق ولييبيت وايريتيا واللائحة طويلة للأسف، لائحة بلدان تركها أبناؤها سواء لأسباب اجتماعية واقتصادية أو لأسباب أمنية و سياسية . لكن التهجير يبقى تهجيرا قاسيا نفسيا كيفما كانت أسبابه .
هذه الرواية تستحق الإصغاء إليها ، فهي صرخة المهاجرين السريين من خلال محمد، هي التفاتة يشكر عليها الكاتب نورالدين طاهري، الذي حكى لنا ما خبره عن قرب عن طريق مواكبته ومعايشة حكايات مهاجرين سريين ، فهذه الرواية لم يكتبها ترفا أو كتب عن معضلة و تجربة إنسانية هو بعيد عنها، بل كتب كما يقال من عين المكان. فهو كما يقول عنها : (إنها ليست مجرد رواية، بل هي جزء من روحي، من تجاربي، من كل لحظة تأمل فيها العقل وتساءل عن معاني الحياة. “تيه في رحلة الحياة” ليست فقط قصة، بل هي رحلة داخل الذات، بحثا عن الحقيقة في عالم يملؤه الغموض والتحديات.)
فهذه الرواية قد يجد فيها الكثير من المغاربة و العرب الكثير ما يشبه تجاربهم مع الهجرة سواء كانت سرية أو قانونية ، فالهجرة ليس فقط غربة بل هي فرصة للانفتاح على الآخر واكتشافه و محاولة فهمه و الاستفادة منه ، دون فقد هوية المنبع والأصل والجدور ، هوية البلد الأصلي . وهنا تكمن رحلة تيه طبيعية صعبة لكنها ممتعة لأنها تنجب شخصية جديدة أعادت صياغتها وعجنها الصدمة والدهشة في أول احتكاك بالغريب /الغرب ، رحلة في ذات المهاجر فيها تحديات وصعوبة تحتاج نفسا طويلا و شجاعة وجرأة كي يعيشها كي يصل إلى إنسان عالمي بقيم إنسانية عالمية و بنكهة خصوصيات منبعه ومن أين أتى. تجربة التأمل مع الأمل.
لكن هل كل المهاجرين يجدون من يأخذ بيدهم كما كان حظ محمد الذي وضع القدر في طرقه مصطفى المهاجر المثقف صاحب الرؤية المتفتحة والذي خبر مجتمع الإقامة، فكان مصباحا لمحمد في طريقه المظلمة ، وهل الجميع سيجد شابة من هذا العالم أليسا ، تقبل على محمد بكل مافيه من مركبات شخصيته التي هي النقيض لأفكارها وقناعاتها وغير مصابة بلوثة العنصرية ، التي تعرض لها محمد بدون شك لكن قد تكون بدرجة قليلة ؟! ..
محمد رمز للمهاجر الذي لم يفقد ثقته في الأمل ، والذي يتأقلم مع المتغيرات ، رمز المهاجر الذي يقرر العودة لوطنه لكن فقر البنية التحتية لبلده و فقر الخدمات الصحية ستجعله يقرر بمرارة العودة لبلد قدم له يوما ما حقه في العلاج وهو لازال مهاجرا سريا ، وأما بلده فقد أخفق في أن ينقد عزيزين عليه.
نهاية الرواية مؤلمة لكن الأمل يشع من كل سطورها وينسل من الأحداث الصعبة ، فالأمل هو ضوء يشع من جل كتابات الكاتب نور الدين طاهري وليس فقط في رواية فيها تيه يوصل إلى شط الأمان بعد تجذيف طويل ومتعب لمركب التأمل والسؤال والدهشة و الاستغراب والبحث..كل هذا يوصل إلى قيم التسامح وقبول الآخر واحترام الذات.
لما توقف السارد عن الحكي تملكني افتخار بمحمد و بسيرته و أمله، فحكايته تشبه حكايات عايشت أصحابها أفتخر بهم وبهن.
شكرا للكاتب نور الدين على هذه الرواية وهي التفاتة إلى مهاجرين سريين ينشدون العيش الكريم.
الرواية صادرة عن: المجلس الأوروعربي للفكر والدراسات والترجمة CEAPET Édition.
Discussion about this post