ليلةٌ بكى فيها القلم
بقلم الكاتبة الصحفية/ دعاء محمود
فتاةٌ عاديةٌ، طموحاتٌ أقل من متوسطةٍ، تعليمٌ عال، شهادةٌ جامعية، عمل ليس به أدنى شغف، ذهابٌ، وإياب خال من الدافعية، والحماسة، زمالةٌ مجردةٌ من الأمانِ، حربٌ في صورةِ عمل، وحدةٌ قاتلةٌ، وانطفاءٌ كبيرٌ لفتاةٍ في ريعانِ شبابها، متدينةٌ إلى حدٍ كبيرٍ تجدُ سعادتها في حضورِ دروس العلمِ الديني، ومتابعة بعض الدعاة الشباب.
قويةُ الشخصيةِ، اعتادت على الأزماتِ، انفصال والدها عنهم، ثم وفاة والدتها حزنًا، وحدةٌ قاسيةٌ، تسببت لها في أزمةٍ نفسيةٍ، عانت على إثرها أعوام، تعافت، اعتادت، وتخطت.
تعملُ في أحدِ البنوك، الذي يقع في أحدِ الأحياء الراقية.
وفي يومٍ غائمٍ، قارصُ البرودةِ، شديدُ الهدوءِ، دخل أحد العملاء يريدُ إجراء بعض التعديلات على كارتِ سحب المال ( الفيزا كارد)، قارب على الأربعينِ، ويالحظها أن قامت بعملها على أكمل وجه، بصوته الرَّخيم، وجاذبيتة الطَّاغية، ملامحه الشَّرقية الوسيمة، وأسلوبه الناعم، استطاع سَلْب رقم هاتفها منها – بكل طواعية دون أن تدري – ومنذُ ذلك اليوم وبدأت قصتها التي غيرت مجرى حياتها.
محادثاتٌ هاتفية طويلةٌ، مقابلاتٌ، شِراكُ الحبِ قد نُصبَت، تعلق بها القلبِ اللَّعين، ذَابت فيه كما يذوب الثلجُ في النَّار، افْنت شخصها فيه كمنْ خلقت لأجله، كيف كانت قبله – ما عادت تذكر – كانت حياتها بالكاد حياة، أما الآن أصبحت حياة بكاملِ معانيها.
ثلاثُ سنواتٍ قضوها في حبٍ جارفٍ، كان لها نعمَ الرجالِ، وكانت تظن أنها كل النساء، انتظرت طويلًا ولم يفاتحها في أمرِ الزواج، ولكن آن الأوان وقررت أن تفاتحهُ في الأمر، فهي لن تظل هكذا أبدَ العمرِ.
فاتحته مراتٍ ومرات، مرةٌ مسافر، وأخرى عندهُ صفقة هامة، وثالثةٌ حدثت وفاة، والكثيرُ من الأعذارِ ولكن رُغم ذلك أصرت على ما طلبت، وإلا فراقٌ إلى الأبدِ، انصاعَ لأمرها، جهزَ عُشُ الزوجيةِ على أكملِ وجهٍ كما اختارته هي، حان وقت الزفاف السعيد كانت فرحتها لا تُوصف، كفرحةِ الأمِ بلقاءِ وليدها المخطوف منذُ أعوام، كانت كفراشةٍ بيضاءٍ في حقولِ الياسمينِ، وبحضورِ القليل من الأصدقاءِ حضرَ الشيخُ ليوثق العقد، والزغاريد تملأُ أركانَ المكانِ في الفندقِ المخصص للفرحِ، فإذا به ينطقها – أأخبرت العروس أنها الثانية – صمتَ الجميعُ أعادها عليه مرةً أخرى، ردَّ قائلا: لن تمانع اكمل شيخنا.
انتفضتْ هي؛ قامت من مجلسها: لتخبر الجميع في عجالةٍ من أمرها بلا أدني تفكيرٍ أنها ترفضُ الزواج.
انهارت بالبكاءِ، هرولت بفستانها الأبيض، إلى منزلها، انقلبت الدنيا في لحظةٍ – دونَ سابقِ إنذار – خلعت رداءَ الفرح لترتدي رداءات الخيبةِ، الحزن، والخذلان.
لم تكن مشكلتها أنها الثانية، وإنما مشكلتها في الكذبِ، التدليسِ، والخداعِ.
كيفَ يخبرها أنه يريدها دفئًا، وموطنًا ولديه موطن وأمان، كيف ينسجُ لها قصرًا من وهمٍ تفوحُ من أركانهِ رائحةُ الحبِ، ويبني قصرين في أبنائه، كيف يُلقي في قلبها فرحةً تعربشُ سنوات تكبرُ كطفلٍ وليدٍ ولديه أفراح، آمال، وحياة، كيف .. وكيف كلها أسئلة لم تجد لها إجابة، نبضاتُ القلبِ صارت وخزاتُ الإبرِ، تحولت حرارةُ الجوِ إلى صقيعِ المشاعرِ، وجليدِ الإحساس.
لا تشعر، لا تتنفس إلا بأجهزة داخل مستشفى لا تدري من أحضرها إليها، ماذا حدثَ لها، ولا كم من الوقتِ مرَ عليها.
أفاقتْ من تساؤلاتِ عقلها الذى لم يهدأ طوال فترة غيبوبتها، لتجد نفسها أمام الحياة مرةً أخرى بكلِ عيوبها ولعناتها.
بدأت حياةٌ جديدةٌ من الصفرِ، عاشت وحيدةٌ مرةٌ أخرى، غيرت كل ما كان يربطها به، حتى عملها، وبيتها.
سافرت إلى الأردنِ حيثُ بيت خالتها الكبرى، ظللت تبحث عن عملٍ مدة ليست بالقليلةِ، تنقلت بين وظائفٍ كثيرةٍ، بدأت تقتاتُ على القراءةِ حتى ينتهي اليوم بلا تفكير .
أيامٌ، وأيام، تلتها شهورٌ وسنواتٌ، وذات ليلة مقمرة في حديقةِ بيت الخالة أمسكت بقلمها، وبدأت تكتب، وتكتب تسردُ قصةَ حياتها، ومعاناتها، اعترافات لم تبح بها من قبلِ، كلماتٌ كذبحِ السكاكين، مع كلِ حرف تخطه تنزفُ دمًا، يبكي القلم، وينتحب.
كلماتٌ تلو الأخرى، جملٌ متراصةٌ نابعةٌ من دماءِ القلب، لتعلن في نهايةِ قصتها شفائها من أمراضٍ عضالٍ وأهمها بقعة السواد التي ملأت قلبها.
تركت ما خطته تتقاذفه الرياح ليلًا ليصل إلى يدِ جارهم صاحب المطبعة؛ أعجبَ بهذا النحيب، هذا الوجعُ، ودموعُ القلم على الورق، النابعُ من قلبٍ قد قتل، قررَ أن يطبع القصةَ، ويهديها لها.
فرحت بأولِ مولودٍ لها، لم بنجبه رحمها، وإنما بكاه قلمها.
بعد سنواتٍ وجدت نفسها تفوز بجائزةِ الأكثر مبيعاتٍ للعام عن روايتها ( ليلة بكى فيها القلم ) – دونَ أدنى تخطيطٌ منها – ليتحول مسار حياتها من فتاةٍ عاديةٍ إلى كاتبةٍ شهيرةٍ ليس على مستوى بلدها وإنما على مستوى الوطنِ العربي ككل، حقًا يولدُ القدرُ من رحمِ المعاناة.
الكاتبة/ دعاء محمود
#دعاءقلب
مصر
مصر
#دعاءقلب
Discussion about this post