من يعمل العقل في كتاب الله يجده لم يكتف بتنظيم علاقة العبد بربه، وعلاقته بمجتمعه والآخرين حتى المخالفين في العقيدة، لكنه أيضًا يرسى مبادئ الوسطية ومكارم الأخلاق، مشددًا على ضرورة أن يكون المسلم قدوة في السلوك والعمل، ولهذا فضل المولى – جلت قدرته – العلماء والتقاة على غيرهم.
فالقرآن الكريم ليس مجرد كتاب نتلو كلماته، بل أُنزل للعمل بأحكامه وإرشاداته ونواهيه وضبط حياتنا بتعاليمه، هو دعوة إلى إعمال العقل وتدبر آيات الله في ملكوته، لاكتشاف مدى عظمة الخالق وروعة خلقه عز وجل “أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ.وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ.وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ.وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ”، وهي دعوة محكومة باتباع المسلم الخلق الحسن في دعوته لله وتعامله مع غيره، والآيات في ذلك كثيرة “ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ”، ويطلعنا القرآن الكريم على نماذج راقية لأدب الحوار، وقد ضرب الله عز وجل مثلاً بواحدة من أصغر مخلوقاته، حيث يقول على لسان نملة “قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ”، فالنملة على ضآلة شأنها، حرصت لعلمها بمكانة نبي الله سليمان أن تنفي عنه وجنوده قصد دهس قومها، فاستدركت وهي تحدثهم قائلة: “وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ”، كذلك من أدب الحوار القرآني أن نضبط أصواتنا فلا تعلو، فعلو الصوت مكروه “وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ”، وهذا الضبط يمتد ليشمل الألفاظ أيضًا “وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً”، كما يشمل البصر بتجنب العين ما نهت عنه “وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى”، بل ويمتد للسلوك البشري درءًا للفتنة، فالإنسان بطبعه يغلب عليه الفضول, وقد يقوده فضوله للتجسس على غيره والتحدث عما رآه أو سمعه “وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ”، وكذلك كره السخرية والاستهزاء بالآخرين “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ”، وينهانا كتاب الله عن مشية المغتر المختال “وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا”، كما يوجهنا إلى ضرورة اتصاف حياتنا بالاعتدال، فلا نسرف ولا نغل يدنا “وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا”، وكل ماسبق تلخصه لفظة واحدة “الوسطية”، فالإسلام دعوة إلى الوسطية في كافة أمور الحياة، لقوله تعالى “وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا”، وفي الوسطية صلاح حياة البشرية وتحقيق سعادتها المرجوة دينا ودنيا.
Discussion about this post