#دراسات
“لغة التمني والتجسيد العاطفي: قراءة نقدية في قصيدة ” لو كنت”من ديوان ” على عتبة الروح” للشاعرة هناء ميكو”
نورالدين طاهري
قصيدة “لو كنت” للشاعرة هناء ميكو تمثل لوحة شعرية تتناغم فيها المشاعر الإنسانية مع التجارب الوجدانية العميقة، وتتسم بغنائية آسرة تتجلى في تكرار البنية الشرطية التي تشكل العمود الفقري للنص. النص يفتح أبوابا متعددة للتأويل الفلسفي والإنساني، ويستدعي استكشافا مستفيضا لمعانيه ودلالاته الفنية والنفسية.
تقوم القصيدة على صيغة شرطية متكررة (“لو كنت”)، وهي أداة استدعائية تُعيد تشكيل الزمن والمكان عبر التخيل الشعري. هذه البنية تُضفي على النص إيقاعا داخليا يُشبه التردد الموسيقي، حيث تخلق كل جملة شرطية توقعا جديدا يُغذي الخيال ويحفّز التفكير. التكرار في النص ليس مجرد أداة لغوية، بل يُستخدم كإطار يُحكم قبضته على البناء الكلي، ما يمنح القصيدة تماسكا داخليا. يُظهر التكرار أيضا تأكيدا على معاني الشوق والبحث عن الكمال العاطفي والروحي.
القصيدة تتمحور حول استكشاف العلاقة بين الذات والآخر، حيث يتحول الآخر إلى مركز وجودي تُمتحن فيه الذات. “لو كنت” تُصبح مرآة تُظهر الرغبة العميقة في التماهي مع الآخر، ومحاولة خلق عوالم بديلة يمكن أن تتحقق فيها الأحلام المستحيلة. الحب في القصيدة ليس شعورا عابرا، بل هو تجربة وجودية شاملة. يظهر الحب كحالة من الذوبان والتماهي مع الآخر، وكأنه وسيلة لفهم الذات واكتشاف أبعادها الخفية. في “لو كنت قلبًا.. ما اتخذت ملاذا إلا روحك”، تعكس الشاعرة المعنى العميق للحب كملاذ آمن، مما يضفي على النص بعدا حميميا يتجاوز العادي.
تتكرر العبارة “لو كنت” كتعبير عن الحنين إلى ما لم يكن، والرغبة في استعادة أو تخيل ما يمكن أن يكون. هذه الثنائية الزمنية بين الماضي والحاضر تُعمق من شعور القارئ بالتأمل في احتمالات الحياة.
تتجلى الصور الشعرية في القصيدة بتنوعها وغناها. فهي تتراوح بين الصور الحسية مثل: “لو كنت لونًا لتربعت فوق عرش فرشاتك جمالا”، حيث يصبح اللون رمزا للجمال والأثر الإبداعي، وصولا إلى الصور الشعورية الداخلية مثل: “لو كنت عمقا لأمسكت بحبل وصالك دوما”، مما يعبر عن ارتباط الروح بالآخر بشكل لا ينفصم.
كل صورة شعرية تجسد فكرة إنسانية عميقة، مثل اللون كرمز للتنوع والجمال، القلب كموطن للعاطفة، العمق كرمز للتماسك الداخلي والرغبة في الارتباط. هذه الصور تجعل النص يتجاوز مستوى السطحية إلى عالم من الرمزية الوجودية، حيث يعبر عن التجربة الإنسانية ككل.
اللغة في القصيدة بسيطة وسلسة، لكنها تحمل أبعادا دلالية غنية. المفردات المستخدمة مثل “جوارحي”، “فرشاتك”، و”وصالك” تمنح النص ملمسًا حسيًا يُقرّب القارئ من مشاعر الشاعرة. يتحقق الإيقاع الداخلي من خلال تكرار العبارة “لو كنت”، التي تعمل كعنصر موسيقي يُضيف تناغما للنص. كما أن تداخل الصور والمشاعر يُساهم في خلق إيقاع شعوري يجعل القارئ يعيش التجربة كأنها تخصه.
هناك انسجام ملحوظ بين اللغة والمعاني العاطفية التي تسعى القصيدة إلى إيصالها. فالبساطة الظاهرة تخفي تعقيدا شعوريا عميقا، مما يجعل النص سهل القراءة لكنه يثير التفكير الطويل.
القصيدة تسائل الوجود الإنساني من خلال الحب والتعلق. “لو كنت” ليست مجرد صيغة للتمني، بل هي أداة للتفكير في “ما هو” و”ما يمكن أن يكون”. النص يُبرز كيف يمكن للحب أن يُعيد تشكيل الزمن والمكان، وكيف يصبح الآخر جزءا لا يتجزأ من هوية الذات. من خلال التركيز على الآخر، تعكس القصيدة البحث عن معنى الذات من خلال العلاقة. الحب هنا ليس مجرد عاطفة، بل هو عملية تعريف متبادلة بين الذات والآخر، مما يُظهر العلاقة بين الهوية الفردية والجماعية.
قصيدة “لو كنت” للشاعرة ميكو هناء هي عمل شعري مُتقن يتجاوز حدود النصوص الغنائية التقليدية، حيث يجمع بين الجماليات اللغوية والعمق الفلسفي. النص يمثل رحلة في أعماق الروح الإنسانية، مع استكشاف متأنٍ لمعاني الحب، الفقد، والهوية. الصور الشعرية الغنية والأسلوب البسيط المُحكم يجعلان من القصيدة تجربة أدبية عميقة تُلامس القارئ وتدعوه للتأمل في ذاته وعلاقته بالآخر. هذا النص ليس فقط قصيدة عاطفية، بل هو دراسة وجودية تقدم الحب كعنصر أساسي في تشكيل الوجود الإنساني، مما يجعله إضافة مميزة لديوان “على عتبة الروح”.
——-
النص الشعري
لَوْ كُنْتُ بَيْتاً
الشاعرة : هناء ميكو
لَوْ كُنْتُ بَيْتاً شِعْرِيًّا
لَعَجَزَتْ كَلِمَاتِي عَنْ وَصْفِ أَثَرِكَ فِي جَوارِحِي.
لَوْ كُنْتُ لَوْنًا
لَتَرَبَّعْتُ فَوْقَ عَرْشِ فُرْشَاتِكَ جَمالًا.
لَوْ كُنْتُ فِكْرًا
لَرَصَّعْتُ خَاتَمَ رَهَافَتِكَ بَرِيقًا.
لَوْ كُنْتُ قَلْبًا
مَا اتَّخَذْتُ مَلَاذًا إِلَّا رُوحَكَ،
حَتَّى يَتَوَقَّفَ النَّبْضُ مَوْتًا.
لَوْ كُنْتُ فَرْحَةً
لَهَرْوَلْتُ اتِّجَاهَ إِنْسَانِكَ مُغَمَّضَةَ العَيْنَيْنِ استحقاقًا.
لَوْ كُنْتُ بَسْمَةً
لَٱخْتَبَأْتُ فِي رُوحِ سَمَاحَتِكَ تَوَرُّدًا.
لَوْ كُنْتُ عُمْقًا
لَأَمْسَكْتُ بِحَبْلِ وِصَالِكَ دَوْمًا.
آه … من “لو” …
تُفِيدُ الشَّرْطَ جَازِمًا.
Discussion about this post