#دراسات_نقدية
“هذيان ذاكرة: سردية الجريمة والموت في نص بشرى طالبي”
الناقد نور الدين طاهري
نص “هذيان ذاكرة” للكاتبة المغربية بشرى طالبي هو عمل أدبي يتسم بالعمق النفسي والرمزية المكثفة، ويتناول بأسلوب فني رفيع صراع الذات مع ذكرياتها. النص يفتح أفقًا واسعا للتأمل في علاقة الإنسان بالماضي وكيفية تأثير الذكريات على تكوين الحاضر والمستقبل. تبدأ الكاتبة النص بإيحاء درامي قوي، حيث تصف فعل الكتابة كعملية قتل رمزية للذكرى، بينما يُبرز السرد توترا داخليا دائما بين محاولة التحرر من عبء الذكريات واستمرار حضورها المتجدد.
في نص “هذيان ذاكرة”، يتم استحضار مفهوم “الجريمة” كاستعارة رئيسية تعبر عن فعل الكتابة، دفن الذكريات، أو محاولات التخلص منها. الجريمة هنا ليست بالمعنى المادي أو القانوني، بل تأخذ بُعدا نفسيا ووجوديا يعكس معاناة الراوية مع ذكرياتها المؤلمة. الكتابة تُشبه فعل القتل، حيث يتم التعامل مع الذكرى ككيان حيّ يجب التخلص منه بطريقة عنيفة أو متعمدة، لكن في كل مرة تعود هذه الذكرى للظهور، كأنها تأبى الفناء أو تسعى للانتقام.
فعل الجريمة في النص يرتبط بثنائية الشعور بالفخر والذنب؛ الراوية تعبر عن إحساسها بالانتصار عند “دفن” الذكرى، لكنها تعاني من تبعات هذا الفعل لاحقا، حيث يصبح وجودها نفسه مثقلا بعبء الجريمة. استعارة “الجريمة” تجسد قوة الذكرى كعدو لا يمكن التخلص منه بسهولة، وتحول كل محاولة للنسيان إلى صراع داخلي مع الذات.
الجريمة في النص ليست فقط وسيلة للتعبير عن صعوبة النسيان، لكنها أيضا تشكل نقدا ضمنيا لطبيعة الذاكرة البشرية، التي تسجن الإنسان في حلقات مفرغة من الألم والندم. النص يضع القارئ أمام تساؤلات فلسفية حول معنى التخلص من الماضي، وهل يمكن اعتبار النسيان فعلا اختياريا أم قدرا محتوما؟
الجريمة في هذا النص ليست نهاية، بل هي بداية جديدة لمعاناة أخرى، تُبرز عبثية الصراع مع الذكرى وإصرار الراوية على استكمال هذا الطقس المأساوي الذي يخلّف أثرا دائما في روحها.
اللغة المستخدمة في نص “هذيان ذاكرة” تتجاوز التوصيف السردي العادي، حيث تجمع بين عناصر السرد الأدبي التقليدي وجماليات الشعر، مما يمنح النص قوة تعبيرية وإحساسا جماليا عميقا. الجمل في النص مشحونة برمزية مكثفة تُبرز التوتر النفسي والحالة المضطربة التي تعيشها الراوية. هذه الرمزية تُحول المفاهيم المجردة، مثل الذكرى والكتابة، إلى كيانات مستقلة، نابضة بالحياة، وذات تأثير ملموس.
الكتابة في النص تبرز توترا بين الذات والذاكرة من خلال استدعاء استعارة “الجريمة”، وهي صورة بلاغية تعكس محاولة الراوية التخلص من ثقل الماضي. تكرار هذه الاستعارة في النص يُضفي عليه طابعا دراميا ومسرحيا قويا، حيث تتحول الكتابة إلى فعل مادي مشحون بالعنف الرمزي، وكأن الراوية تحاكم ذكرياتها وتدينها، ثم تحكم عليها بالإعدام. هذا الطابع المسرحي يجعل القارئ وكأنه أمام مشهد سينمائي يعبر عن صراع داخلي شديد بين الأنا والآخر (الذكرى).
الجمل في النص تتوالى بأسلوب إيقاعي، وكأنها تسير وفق نغمة داخلية تتصاعد تدريجيا، مما يُضفي بعدا شعريا على النص. هذا الإيقاع الشعري يعزز من حالة التوتر النفسي، حيث تُستخدم الصور البلاغية بشكل متكرر لتضفي على النص طابعا حدسيا ووجدانيا. على سبيل المثال، تصوير الذكرى كجثة تُدفن مرارا يعكس استحالة الهروب من الماضي، حيث تعود الذكرى دائما، كما لو أنها تنتقم من الراوية.
تجسيد الذكرى ككيان مستقل هو أبرز عناصر الجمال اللغوي في النص. فهي لا تُعامل كمفهوم مجرد أو شعور داخلي، بل تُصور كطيف واع يتحدث، يطالب بحقه، ويشارك في مراسيم تأبينه. هذا التصوير يضفي على النص طابعا فنتازيا عميقا، حيث تتداخل الواقعية النفسية مع الخيال الأدبي.
اللغة في النص ليست مجرد وسيلة للتعبير عن الأفكار، بل هي الأداة الرئيسية التي تحمل ثقل التجربة النفسية والوجودية للقصة. هذا التداخل بين السرد التقليدي والبعد الشعري يجعل من النص عملا أدبيا مميزا يمتزج فيه الإبداع الفني مع التعبير الوجداني الصادق.
النص “هذيان ذاكرة” للكاتبة بشرى الطالبي يستعرض حالة من الصراع النفسي العميق عبر أسلوب متداخل بين السرد الأدبي والنثر الشعري. تستخدم الكاتبة لغة مكثفة وشاعرية، حيث تمزج بين التعبيرات الواقعية والرمزية لتجسد تجربة الراوية مع الذكرى. كل جملة في النص تبدو وكأنها جزء من بناء درامي أكبر، يحمل أبعادا نفسية وفلسفية.
الكتابة تجسد الذكرى ككائن حي مستقل يطارد الراوية، ويخلق بينها وبينه مواجهة دائمة. الاستعارات المستخدمة مثل “ارتداء ثقل الجريمة” و”دفن الذكرى في الذاكرة” تضفي طابعا وجوديا عميقا على النص، وتجعل القارئ يعيش الصراع الداخلي للراوية. اختيار استعارة “الجريمة” يعبر عن إحساس بالذنب أو الاغتراب عن الذات، حيث تتحول كل محاولة لنسيان الماضي إلى فعل عنيف يعقبه ندم.
الأسلوب يتميز بتداخل بين الحميمية والفكرية، إذ تستخدم الكاتبة ضمير المتكلم لإشراك القارئ في معاناتها، بينما تقدم في الوقت نفسه تأملات فلسفية عن طبيعة الذكريات والمواجهة مع الماضي. اللغة ثرية بالإيقاع الداخلي، مما يجعل النص يتدفق بانسيابية رغم عمقه النفسي.
الطابع المسرحي للنص يظهر في استخدام الحوار الداخلي بين الراوية والطيف. هذه التقنية تضفي حيوية على النص وتمنحه بُعدا تمثيليا، إذ يبدو وكأن القارئ يشاهد مسرحية نفسية. الحوار يعبر عن صراع بين الرغبة في التحرر من الماضي والخوف من مواجهته.
التكرار في النص يعكس حالة الدوران في حلقة مفرغة، ما يعبر عن استحالة الهروب من الذاكرة. الراوية تبدو عالقة في دائرة مغلقة من الجرائم التي ترتكبها ضد نفسها، لتعود في كل مرة إلى نفس النقطة.
النص يحمل بُعدا فلسفيا واضحا، حيث يعكس تأملات الكاتبة حول علاقة الإنسان بذكرياته. الذاكرة هنا ليست مجرد مستودع للأحداث، بل هي كيان حي يؤثر في تشكيل الهوية. الصراع مع الذكرى يعبر عن محاولة للسيطرة على الماضي، لكنه في الوقت نفسه يبرز استحالة التحرر الكامل منه.
النص يمثل حالة من الانغماس في الذات، إذ يصبح العالم الخارجي غائبا تقريبا. كل شيء يدور حول الراوية وعلاقتها بذكرياتها، ما يمنح النص طابعا داخليا عميقا. القهوة والقلم والطيف ليست سوى أدوات تسهم في تأجيج هذا الصراع النفسي.
“هذيان ذاكرة” نص معقد ومتشعب، يحمل القارئ إلى عوالم من التأملات والصراعات الداخلية. الكاتبة نجحت في خلق تجربة أدبية غنية بالمشاعر والأفكار، تجعل القارئ يتوقف عند كل جملة ليعيد التفكير في معانيها وأبعادها.
يعتمد النص على بناء دائري يتسم بالتكرار، وهو ما يعكس بشكل فني حالة الصراع المستمرة التي تعيشها الراوية. تبدأ الحكاية بدفن الذكرى ومحاولة التخلص منها، ثم تعود إلى السطح مجددا لتفرض حضورها. هذا التكرار يُبرز عدم قدرة الإنسان على التخلص التام من ماضيه، كما يُشير إلى الطبيعة اللولبية للصراع مع الذات. في الوقت نفسه، تظهر في النص ازدواجية واضحة بين محاولة التحرر من الذكرى والرغبة في استدعائها، مما يعكس تعقيد التجربة الإنسانية.
الكتابة، كما تقدمها الكاتبة، ليست مجرد وسيلة للتعبير بل هي وسيلة للشفاء الذاتي وللانتقام أيضا. القلم والمداد يتحولان إلى أدوات للجريمة، وكأن الإبداع هو الطريقة الوحيدة التي تملكها الراوية للسيطرة على الذكريات المؤلمة. لكن هذا الإبداع لا يُخلصها تماما من معاناتها؛ بل يصبح هو نفسه جزءا من الحلقة المفرغة.
يتضمن النص أبعادا فلسفية عميقة، حيث يُثير أسئلة حول ماهية الذكرى وطبيعتها: هل هي شيء يمكن التحكم فيه أم أنها قوة خارجية تُسيطر على الذات؟ وكيف يمكن للإنسان أن يواجه أعباء ماضيه دون أن يُدمر حاضره؟ هذه الأسئلة تُطرح في النص بشكل غير مباشر، مما يُضفي عليه طابعا تأمليا يُلهم القارئ للتفكير.
في الجانب الجمالي، يبرز النص كعمل فني يجمع بين جمال اللغة وقوة المعنى. الكاتبة تُظهر براعة في استخدام الصور البلاغية التي تُحاكي عوالم نفسية عميقة، مثل تصوير الذكرى كطيف يتحدث ويطالب بحقوقه، أو تصوير الكتابة كجريمة كاملة. هذه الصور تُضفي على النص عمقا إضافيا يجعل منه أكثر من مجرد حكاية شخصية؛ بل عملا أدبيا يلامس القضايا الإنسانية العامة.
نص “هذيان ذاكرة” يمثل حالة من التداخل العميق بين التجربة الإنسانية والبعد الأدبي، ليُقدم قراءة فلسفية ونفسية غنية لتجربة الذات مع الذكريات والآلام المرتبطة بها. الكاتبة بشرى طالبي تنسج عالما رمزيا يستخدم أداة “الذاكرة” كمعبر لفهم معاناة الإنسان مع ماضيه، معبرة عن ذلك بلغة أدبية تحمل أبعادا تتجاوز الحكي التقليدي.
يستمد النص قوته من عدة عناصر مترابطة. أولهما البناء السردي الذي يعتمد على التكرار المأساوي، حيث تعيش الراوية حلقة متكررة من “الجريمة” – رمزا للتخلص القسري من الذكرى – لتجد نفسها عالقة في دائرة لا تنتهي من التأمل في الماضي. الكاتبة تستخدم الاستعارة بمهارة، إذ تصف الذكرى ككائن حي له إرادة مستقلة، يُشارك الراوية تفاصيل الحياة والموت، ويرفض الموت بسهولة، مما يضفي طابعا دراميا على النص.
البعد الفلسفي للنص يظهر في الأسئلة الضمنية التي يطرحها: هل النسيان ممكن؟ وما معنى التخلص من الذكرى؟ هل الكتابة فعل تحرري أم فعل تضحية بالذات؟ هذه الأسئلة تجعل النص أشبه بتأمل وجودي في طبيعة الزمن والذاكرة، وكيف تتشابك مع الهوية الفردية.
البعد النفسي للنص ينعكس في تصويره لتأثير الذكرى على الحالة العاطفية والجسدية للراوية. الألم النفسي الذي يصاحب الذكرى يصبح ملموسا من خلال الأوصاف الجسدية مثل الثقل أو الشلل المؤقت، مما يعكس براعة الكاتبة في تحويل المشاعر الداخلية إلى صور حسية يمكن للقارئ أن يتفاعل معها.
اللغة المستخدمة في النص تُبرز مهارة الطالبي في المزج بين السرد الأدبي التقليدي وجماليات الشعر، حيث تُستخدم الصور البلاغية لإضفاء عمق على التجربة السردية. هذا المزج يُعطي النص طابعا مميزا يجعله قريبا من النثر الشعري، حيث تتمازج الكلمات لتخلق عالما مشحونا بالرمزية والانفعال.
يُمكن اعتبار نص “هذيان ذاكرة” انعكاسا لتجربة ذاتية عميقة، لكنه في الوقت نفسه يمتلك القدرة على التعبير عن تجارب إنسانية عامة. الكاتبة تنجح في تحويل الخاص إلى عام، مما يجعل النص قادرا على استقطاب مشاعر القارئ وتأمله في تجاربه الشخصية مع الذكرى والنسيان.
——-
هذيان ذاكرة
✍️بشرى طالبي/المغرب
كما هو الحال دائما، عندما أنهي قصيدتي، أرتدي ثقل الجريمة في صمت. أُسدل ستر الظلام على الكلمات، أحمل جثمانها على كتفي، وأشيعها إلى مثواها الأخير. بيدي، أحفر قبرها في الذاكرة، وأوارِيها التراب، حيث لا يبقى إلا شاهدة تقول: “هنا يرقد شبح الذاكرة”. وكل ليلة، أرتكب نفس الجريمة، وأعود فخورة، وكأنني قد حققت انتصارا من نوعٍ خاص.
لكن في صباح اليوم التالي، لا أستطيع أن أتحرك من سريري، كما لو أن جسدي قد التحم مع الجثة التي أودعتها قبرا في ذاكرتي. لا بد أنني ما زلت مثقلة بتلك الذكرى، فتلك الجريمة ليست خفيفة على الروح. ولكن، وبالرغم من التعب، لا يمكنني أن أستغني عن فنجان القهوة الذي يحاول أن يُحيي جزءا مني. أحتاج إليه ليفتح لي أبواب التفكير، فيدفع بي إلى مشهد جديد من الابداع.
أمسك بقلمي، أستعد للكتابة، لكن فجأة يظهر طيف العزيز، واقفا عند باب ذاكرتي. بصوته المألوف يقول: “صباح الخير، قاتلتي”. إنه لا يطلب مني سوى أمرا واحدا، أن أسمح له بحضور مراسيم تأبينه، فهو يعلم مصيره مسبقا.
لن أسمح له بهذه الرفاهية. حاولت تجاهله، أن أدفنه مرة أخرى، لكنه يصر على الحضور. يريد أن يكون شاهدا على جريمتي، وأن يُشارك في كل تفاصيل النهاية، كأنني أعيش في حلقة لا تنتهي من العذاب. هذه المرة، طلب أن أستأجر قناصا محترفا ليقتل الذكرى بطلقة واحدة لا تُخطئ، أو ربما يجعلني أضع له سما في مداد المحبرة، فيموت مسموما. لكنني أرفض فكرة القتل الرحيم، فأنا أفضل أن يموت تدريجيا، كما عشت أنا عذاباتي على مر السنين.
لن أدعه يختار النهاية التي يريدها، كما اختار يوما أن يغادر حياتي. سأترك الأمر لقلمي، هو وحده الذي سيقرر النهاية، وبما أنني قررت أن تكون هذه المرة جريمة كاملة، فلا مفرّ من أن يتحقق ذلك.
Discussion about this post