قراءة في قصيدة ” فِرّي إلي ” للشاعرة سمية قرفادي
نورالدين طاهري
قصيدة “فِرِّي إلي” للشاعرة سمية قرفادي تمثل نموذجا بارزا للشعر الحداثي الذي يمزج بين العمق الفكري والثراء الرمزي. تعكس القصيدة صراع الذات مع واقعها، متجسدة في بنية لغوية تتسم بالتكثيف والانزياح. النص يعبر عن ثنائية الانتماء والاغتراب، مستخدمًا صورا شعرية تعكس أبعادًا نفسية ووجودية عميقة.
العنوان “فري إلي” يختزل جوهر النص، إذ ينطوي على نداء داخلي ملحّ للتحرر من قيود الذات والآخر. صيغة الأمر “فري” تبرز التوتر والتمرد، بينما “إلي” تشير إلى الذات كملاذ، لكنها في الوقت نفسه تطرح إشكالية العلاقة بين الذات والحرية. هذا التناقض يجعل العنوان مفتاحًا لفهم السياق العام للقصيدة.
النص يبدأ برصد حالة من الخواء الداخلي والذاكرة المنطفئة: “ذاكرتي أضحت طريقا منطفئ الأضواء.” الصورة الشعرية هنا تتجاوز الوصف لتلامس العمق الوجودي للذات، حيث الذاكرة التي كانت يوما ما منارة، أصبحت عائقا يُثقل الكيان. الانتقال إلى “وساق دقائقي ملوي كسنبلة موجوعة” يعزز الإحساس بالعجز والتأزم، إذ تصبح اللحظات كيانا مكسورا يعاني من انقطاع جذوره.
الصوت الداخلي الذي يظهر في القصيدة يمثل وعيًا رافضًا للزيف والخضوع: “أناي يصرخ: لا تلبسي جلد النمور… ولا تتظاهري بسكن القصور.” هذا الصوت يوجه الذات إلى مواجهة واقعها دون أقنعة، مشيرا إلى هشاشة القيم الزائفة التي تحكم العالم الخارجي. التناقض بين النصيحة الداخلية والضغوط الخارجية يخلق توترا شعريا يعكس الصراع الدائم بين الذات ومحيطها.
البيئة المحيطة تتجلى كمرآة لحالة الذات الداخلية: “قبالة داري غرابيب سود تنقر أوتار قلوب متسولي زقاقنا.” الغربان هنا ليست مجرد كائنات، بل رموز للخراب والاغتراب، مما يعكس قسوة الواقع الاجتماعي. هذه الصورة تُعمق الشعور بالعزلة والانفصال عن المحيط.
القصيدة تعتمد على بنية متشظية تتجاوز الأشكال التقليدية، إذ يتنقل النص بين المشاعر والأفكار دون التزام بخط زمني أو مكاني محدد. هذه البنية المتقطعة تعبر عن تشتت الذات وتشظيها، بينما يعزز التكرار مثل “فري إلي” و”كيف سأناديك؟” الإيقاع الداخلي للنص، مانحا إياه نبرة احتدام وتوتر دائمين.
اللغة المستخدمة تتسم بالكثافة والانزياح الدلالي. الاستعارات المكثفة مثل “ذاكرتي أضحت طريقًا منطفئ الأضواء” و”غرابيب سود تنقر أوتار قلوب” تعكس قدرة الشاعرة على تحويل التجربة الفردية إلى رموز كونية. في المقابل، نجد لغة مباشرة تأخذ طابعًا احتجاجيا مثل “لا تلبسي جلد النمور”، مما يضفي على النص طابعًا ديناميكيا يجمع بين المجاز والوضوح.
الأسلوب الشعري يتسم بالانسيابية وتعدد المستويات الدلالية. التكرار، الانزياح، والتناقضات الدلالية تُبرز النص كعمل مفتوح يدعو القارئ إلى المشاركة في تأويله. التفاعل بين الذات والعالم الخارجي يتجسد من خلال التنقل بين التأمل الداخلي والوصف الواقعي.
هذه القصيدة تحتل مكانة بارزة في الشعر الحديث، حيث تنتمي إلى مدرسة كسر القيود الشكلية والمضمونية. النص يقدم تجربة إنسانية غنية تتناول قضايا الحرية، الهوية، والبحث عن معنى في واقع مأزوم. هذه الموضوعات تجعل “فري إلي” نموذجا للتجريب الشعري الحداثي الذي يعكس تعقيد الوجود الإنساني.
النص في مجمله شهادة على قدرة الشاعرة سمية قرفادي على صياغة تجربة ذاتية كثيفة في قالب شعري حديث يثير الأسئلة ويمنح القارئ مساحات شاسعة للتأمل والتفسير. القصيدة ليست مجرد انعكاس لمشاعر فردية، بل هي مرآة لزمن تتشابك فيه التناقضات، وتتعاظم فيه الحاجة إلى الحرية والانعتاق.
*****
ذاكرتي أضحت طريقًا منطفئ الأضواء.
وساق دقائقي ملوي كسنبلة
موجوعة بقطع مشيمتها،
وللحقل أشواق.
مهلًا… مهلًا… يا حاصدًا، هل سأسمي ما تبقى
من أيامي
بالآفاق؟
أناي يصرخ:
لا تلبسي جلد النمور…!
ولا تتظاهري بسكن القصور…!
لا تجهري، فصغار حطب الكلم سيشيع النار.
تلبدي كي تصطادي ما تريدين…
كيف ترضخين للعيوب؟
هل حرام أن تسكري بعنب الكرمة
التي ورثتها عن جدك؟
أحلال أن يخوصصك الوطن؟
ويركب ظهر عزمك الغبن؟
كيف ستتطهرين من الذنوب؟
وما شارات هذه النذوب؟
قبالة داري غرابيب سود
تنقر أوتار قلوب متسولي زقاقنا.
أين الرفيقات؟
أين الرفاق؟
أخطو مهركلة نحو المقهى،
النادلة تلبس وزرة الذكورة، تظن مساعيها مشكورة.
تقدم لي شايًا حلوًا عوض قهوة بالبن مغمورة.
عيناها تقول:
لا تتوقحي…
لا تتنوحي…
جوع، عطش، أجزم أنك أمة مقهورة ولست حرة مسرورة.
يا لصوص الأحياء
هلموا… هلموا… خلصوني من هاتفي.
لقد ألبسني الغباء،
وقلمي انتعلت بسببه العناء…
هلموا… هلموا… يا طويلات اللسان.
هيا… هيا… زغردن بالترهات رجاء، ثم رجاء.
سأغادر…
ويسمع لخطواتي هزيز كمركب متهرئ ينوح بالريح.
كيف سأناديك؟
كيف سأناديك؟
كيف سأناديك؟
فري إلي،
فري إلي،
فري إلي.
أو سأفر مني إليك…
أو سأفر مني إليك…
أو سأفر مني إليك…
يا حرية…
قصيدة بعنوان “فري إلي” من ديوان “دفلى لم تجد ريها”.
Discussion about this post