يمتاز النص بقدرته على تحويل الغياب إلى حضورٍ شعري.
في فضاءات النداء ينقل صورة الواقع .
بقلم : محمود حسين
قصيدة ” أناديك ” التي تراءت أمام بصري نداءات فكرية وحسية، ليست مجرد نداءات عابرة، بل هي رحلة شوقٍ طويلة يصوغها الشاعر بصوتٍ داخلي مفعم بالحنين. يتجلى في كل سطرٍ شعورٌ عميق بأن النداء ليس موجهاً لشخصٍ فقط، بل لذكرى، لنبض، لظلٍّ ترك أثراً لا يمحوه الزمن. يمتاز النص بقدرته على تحويل الغياب إلى حضورٍ شعري, حيث يصبح البعد مساحةً لاهتزاز العاطفة لا لانطفائها .
(( أناديك من وراء البحار
من وراء القارات والأسوار
من وراء المحيطات والإعصار
مسافات خلفها الدمار
فتركنا الذكريات والديار
كالنسمات تذوب فينا
كالفراشات تحوم حولنا بلا مدار
أناديك من وراء الغربة
والشوق والمشاعر والانتظار )) .
لغة الشاعر شفافة كالماء، لكنها تحمل في عمقها ضوءاً خافتاً من الأمل، وكأن النداء يفتح نافذةً صغيرة على احتمال اللقاء. إنها قصيدة تلامس قارئها لأنها تأتي من قلبٍ يعرف كيف يحترف الانتظار، وكيف يحول الألم إلى موسيقى هادئة تُسمع بالقلب قبل الأذن. في “أناديك” يتجسد الحب كقوة لا يوقفها الفراق، وكعلاقةٍ لا تنقطع مهما طال الطريق .
(( أناديك من وراء الظلام
من وراء الهموم والأحلام
من وراء المطر الأسود
وزخات عبرات المنام
أناديك يا حلمي الهارب
يا وجعي المتروك بين الركام
كل الحروب المصنعة
دمرت أوسمة الغرام
تركت أطلالا في جسدي
بين ذكرى ونوى السهام
بين مهجر ونازح
ولاجئ أيقن بعد الظلام مقام )).
وفي قصيدة تأسر الروح ” الملكة ” يمزج الشاعر عصمت شاهين الدوسكي بين الترف الشعري وعمق الشعور ، فيجعل من الأنثى عالَماً كاملاً من الجمال والهيبة.
)) مَوْلاتِي أطْرِقُ أبْوابِك وَكُلً جِدَارا
أسْبِقُ العَاشِقين وَاصْرخُ بَينَ جِنَانك يَارا
لا الحَارِس يَرَانِي ولا جِنُود السُور لَيلاً وَنَهَارا )).
أضاء النص بروح إضافية ، فظهرت القصيدة بزَخَمٍ و رَونقٍ يليقان بلقبها .. هي ليست مجرد كلمات … إنها لوحة من نور ، تُقرأ بالقلب قبل العين .
)) مَولاتِي صَدرُكِ المُعَنًى يَفيضُ انْهَاراً
وَانْهَارا عِشقُك بَينَ الحُلُمَات
يَصْلُبُ عَلَى خَشَبِ أو أحْجَارا
مَولاتِي مُدًي يَدَيكِ
فِي رِحَابك أقَدِمُ الوُرُودَ والأزهَارا
عَلَى بِلاطُكِ المُلَون امْشِي بِخَجَلٍ مِرَارا
أنْتِ المَلكَة الجَميلَة المُتَمَردة
وَأنَا اسْتَحِقُ مِنْ قَلبكِ عِرْشاً بِلا أسْوَارا )) .
نصٌّ بديعٌ يفيض حسّاً إنسانيّاً وعمقاً فكريّاً ، يرفع الحبّ من مستوى العاطفة إلى مقام الرؤية والوجود. تتجلّى فيه الحبيبة كرمزٍ شاملٍ للأرض والحلم، فتغدو الكلمات مشحونةً بالشغف والألم معاً .. لغة شفّافة، وصور غنيّة، وتأمّل صادق يؤكّد أن الأدب الحقيقي لا يُكتب للزينة، بل ليوقظ الروح ويمنح المعنى زمناً أطول للحياة. نصٌّ جميل يرسّخ حضور الكلمة النبيلة في وجه طغيان المادّة.
قصيدة ” سَجِّلْ ” ليست مجرد صور شعرية .. إنها هوية تُكتَب ، وكرامة تُعلَن ، و راية إنسانية تُرفَع. عصمت شاهين الدوسكي لا يصف الكردي فحسب، بل يرسم ملامح الإنسان الحرّ الذي لا يساوم على قيمه، ولا يبيع جذوره ، و لا ينحني إلا للإنسانية. كل بيتٍ هنا نبض ، وكل كلمة شهادة على نقاء الأصل وعمق الإنتماء. إبداع يحوّل الحقيقة إلى شعر ، والهوية إلى فخر.
(( سَجِّلْ أَنَا الكُرْدِي
لَوْنِي مِنْ قِمَّةِ الجَبَلِ
شَعْرِي كَشَجَرَةِ الجِنَارِ
طُولِي يُعَانِقُ الأَمَلَ
لَوْنُ دَمِي نُورُ الحَيَاةِ
نَوْعُهُ إِنْسَانِيُّ الأَجَلِ
عَلَامَتِي الفَارِقَةُ
الوَفَاءُ وَالحُبُّ وَالخَجَلُ
سَجِّلْ
عُمْرِي العِشْرِينِي الثَّلَاثِينِي
حَتَّى السِّتِّينِي وَالسَّبْعِينِي
عِنْدِي أَوْلَادٌ وَبَنَاتٌ
كَاليَنَابِيعِ تَرْوِينِي
أَكْتُبُ، أَزْرَعُ، أَعْمَلُ
فِي شِعَابٍ وَبَسَاتِينِ
لَا البُنْيَانُ العَالِيَةُ تُغْرِينِي
لَا صَوْتُ الفَسَادِ يَثْنِينِي
الأَصْلُ لَيْسَ قُشُورًا
بَلْ جُذُورًا تُكْرِمَني تَدْفِينِي )).
في فضاءات النداء ينقل صورة الواقع التي لا يمكن رؤيتها إلا من خلال شاعر أدمن الحب والجمال والوعي والإحساس مثل الشاعر عصمت شاهين الدوسكي باختيار دقيق صمن معاني بعيدة عن التعقيد وممتعة كلماته الرائعة، تلامس القلب والروح ،إعجابي العميق بإبداعه وقدرته على التعبير عن المشاعر بصدق وجمال لا يضاهى .
أستاذي الغالي كلماتك ليست مجرد نصوص ، بل عوالم تنبض بالحياة والوجدان ، تصنع من الحب تجربة كونية، ومن الألم جمالاً ساحراً .. رؤيتك ثاقبة ، ولغتك شاعرية تتجاوز حدود الزمان والمكان، فأنت بحق صانع إحساس و مهندس وجدانيّ ، يرفع القارئ إلى أفق من العمق والجلال ..






































